عندما يبكي الحاكم

عندما يبكي الحاكم

30 يونيو 2019

تيريزا ماي تعلن استقالتها في لندن (7/6/2019/Getty)

+ الخط -
وددت لو كنت شاطرت رئيسة وزراء بريطانيا، تيريزا ماي، دموعها وهي تقرأ خطاب استقالتها على الملأ، غير أن اختلاف موجبات البكاء بين ثقافتين عرقلت مجرى الدموع في محاجر عينيّ، فلم أجد مسوّغًا للتضامن العاطفي معها؛ لأنني أدرك أن معركة ماي مع الحرية كانت خاسرة منذ البداية؛ إذ يستحيل في تلك الجغرافيات الحضارية أن ينتصر حاكمٌ على إرادة شعبه، ولو ملأ البحار دموعًا، فمن يبكي هناك هم الحكام لا الشعوب.
والحال أنني تابعت سلسلة المعارك الشرسة التي خاضتها ماي مع برلمان بلادها، في محاولةٍ منها لتمرير اتفاقية الانسحاب من الاتحاد الأوروبي بلا جدوى، وكان الجميع يدرك حتمية استقالتها إذا أخفقت في مهمتها، باستثناء الشعوب العربية طبعًا، التي توقفت الدموع في محاجرها منذ آخر دمعةٍ ذرفها عبدالله الصغير وهو يغادر الأندلس طريدًا، فبكى "مثل النساء مُلكًا لم يحافظ عليه مثل الرجال"، وفق أمه التي قرّعته بهذا البيت من الشعر، والذي ذهب مثلًا عربيًّا بامتياز، استفاد منه الحكام العرب، للحفاظ على "أملاكهم"، لا على أوطانهم.
وقبل موجبات البكاء، كانت موجبات الاستقالة بالنسبة إلى ماي، ففي أخلاق أولئك الحكام وثقافاتهم، على الحاكم أن يستقيل، إذا أخفق بإقناع البرلمان بقرار مصيريّ يمسّ مستقبل الشعب والبلد، أما في ثقافات حكامنا وأخلاقهم (إذا كان ثمة أخلاق) التي يخلو منها بند "الاستقالة"، فلا حاجة أساسًا لعرض القرارات على المجالس النيابية، إن وجدت أصلًا، وإن عرضت لا يكون العرض إلا صوريًّا، فيما تكون المصادقة قد سبقت الاجتماع.
والآن، لا أحد يسأل لماذا استقالت ماي غير شعوب العالم الثالث وطغاتهم فقط، ففي مثل هذه الدهشة يشترك الطرفان في العجب العجاب، فالشعوب تسأل: "منذ متى يستقيل حاكم إذا أخفق بتمرير صفقة مع البرلمان؟"، فيما يقول الطغاة: "وماذا إذا فشلت الصفقة، أليس في وسع هذه المعتوهة أن تكمل فترة ولايتها، والتنعّم بسلطتها حتى النهاية؟"، ويتناسى الطرفان أن الحكم في تلك الجغرافيات تكليف لا تشريف، وأن آخر ما يفكر به الحاكم هو السلطة، فإن أحسّ وهلة بأنه لم يعد مؤهلًا لخدمة شعبه، سرعان ما ينسحب بصمت، أما دموعُه فلا تنهمر على "ملكٍ مُضاع"، بل على خدمة "مُضاعة" لشعبه، لم يستطع أن يؤديها كما كان يحلم قبل تسلّمه المنصب.
في تلك البلاد، تكون السلطة عبئًا وقلقًا وعرقًا وخوفًا وحسابًا عسيرًا. وفي هذي البلاد تكون السلطة تمطّيًا ورفاهية وخدمًا وحشمًا وسياحة وأوامر.. هناك يكون الحاكم في خدمة الشعب، وهنا يكون الشعب في خدمة الحاكم.
على هذا الأساس، تختلف موجبات البكاء بين جغرافيتين. الأولى تبكي فيها تيريزا ماي وحدها بلا شعبها، والأخرى تبكي فيها شعوبٌ بأكملها بلا حكامها، اللهم إلا عند زوال الملك من حكام "صغار" كعبدالله الصغير، وربما، أيضًا، كصدام حسين حين بكى رفاقُه في حزب البعث، قبل أن يأمر بإعدامهم إبّان الاجتماع الشهير في قاعة الخلد في بغداد، ليسجل سابقة فريدة من حاكم عربيّ بكى وهو على هرم السلطة، وإن كانت دموع التماسيح حاضرةً في المشهد السوريالي. أما ما دون ذلك، فلم يسجل التاريخ بكاء زعيم عربي على أي كارثة، أو مجزرة اقترفت في عهده، فلا بشار الأسد ذرف دمعةً واحدةً على نصف شعبه المهجر، ونصفه الآخر المروّع بالغازات السامة والقنابل الفسفورية، ولا عبد الفتاح السيسي اختطفت مجازره في ميدان رابعة العدوية وسواه دمعة عابرة من عينيه، ولا المجلس العسكري في السودان استوقفته جثث المعتصمين أمام مقر قيادة الجيش.
قلنا هو اختلاف في ثقافة السلطة بين كوكبين ليس إلا، في الكوكب الأول يبكي الحكام من "تسلّط" الشعوب، وفي الكوكب الآخر تبكي الشعوب من تسلّط الحكام.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.