مصر والسؤال المعهود.. ماذا بعد؟

07 مايو 2019
+ الخط -
انتهى في مصر مولد/ مهرجان الاستفتاء، بكل ما حمله من تفاصيل ومؤشّرات. لم تكن هناك مفاجأة، فقد شاهد الجميع اللافتات الدعائية الكثيفة للتصويت بنعم، وكان متوقعا كذلك ألا تسمح السلطة بلافتات ترفض التعديلات المقترحة أو تنتقدها. شاهدنا جميعا القنوات والإذاعات والصحف ومواقع الإنترنت التي تدعو الناس إلى المشاركة والتصويت بنعم طول الوقت، في غياب أي صوتٍ يستطيع النقاش أو الرد أو شرح خطورة تلك التعديلات المطروحة. وقبل الاستفتاء بشهور، رصدت تقارير صحفية الترتيبات التي كان يتم تجهيزها في أقسام الشرطة ومقر حزب السلطة الجديد الذي يُدعى "مستقبل وطن"، مثل صناديق السلع الغذائية التي يتم توزيعها على الأغلبية الفقيرة في مصر على سبيل الرشوة الانتخابية، بالإضافة إلى تقارير وصور وفيديوهات توزيع الأموال على مقاولي الأنفار وبلطجية الانتخابات، ليوزعوها على مواطنين بسطاء، بغرض التصويت مقابل الغذاء، وكذلك تجنيد البلطجية وأصحاب السوابق الجنائية بغرض جمْع المواطنين والحرفيين من على المقاهي وإجبارهم على التصويت بنعم، وشاهدنا جميعا استخدام فكرة لجان الوافدين بعرض التصويت أكثر من مرة في عدة لجان بدون ضابط، بجانب التهديد والإرهاب وإجبار البسطاء على التصويت بنعم.
وكالعادة، انقسمت الكتلة الرافضة إلى عدة أقسام، كانت هناك كتلة المقاطعة لعدم الجدوى، وكتلة المقاطعة لنزع الشرعية، والجديد في هذا الحدث ظهور كتلة المشاركة والتصويت بـ لا في الاستفتاء، وهم حسب الأرقام الرسمية المعلنة يزيدون عن ثلاثة ملايين مصري رافض تلك التعديلات، وإن كانت الأرقام برمتها مشكوكا فيها، بسبب غياب الرقابة تماما على الانتخابات، 
دولية كانت أو من المجتمع المدني المحلي، بالإضافة إلى التأخر في إعلان النتيجة ورفض الفرز في اليوم نفسه، كما كان يحدث بعد ثورة يناير، ضماناً لعدم التزوير، ولكن الثابت والواضح أن هناك كتلة ضخمة قرّرت المشاركة والتصويت بـ لا هذه المرة. وهناك تقارير عديدة رصدت تحول مواقف نسبة ضخمة من مؤيدي عبد الفتاح السيسي إلى الرفض، بعد استشعار الخطر على الوطن من التعديلات في الدستور.
وبشكل عام، لم يكن هناك نشاط احتجاجي بالشكل الذي كان معهوداً بعد ثورة يناير، أو حتى قبلها. كان الشكل الاحتجاجي الوحيد الذي تم السماح به نسبياً هو التصويت سراً بـ لا داخل الصندوق، إن أمكن. وفي السياق نفسه، حدث ما كان متوقعا، مثل القبض على بعض مَن حاولوا تصوير تلك الانتهاكات والفضائح التي صاحبت عملية التصويت، كما تم القبض علىالشاب الذي قام بتصوير نفسه وهو يزيل إحدى لافتات تأييد التعديلات الدستورية ويقطعها. وعلى المستوى الشخصي، تألمت كثيراً عندما تم القبض على الصديق المهندس أحمد بدوي الذي رفع ورقة صغيرة الحجم مكتوباً عليها "لا للتعديلات".
بعد انتهاء ذلك المهرجان، بدأت التساؤلات المعتادة والمشروعة: وماذا بعد؟ وهناك آراء كثيرة على الفضاء الإلكتروني تدعو إلى تشكيل جبهة موحدة، ونبْذ الخلافات القديمة من أجل مواجهة النظام الحالي. وبعد ذلك بأيام، صدر بيان منسوب لجماعة الإخوان المسلمين يثمن دور كل من دعا إلى المقاطعة أو دعا إلى المشاركة بلا، واعتبر أن الأصوات الرافضة التعديلات هي نتاج مجهودهم، ودعوتهم السابقة، كما دعا البيان إلى أن يجتمع الكل للانصهار في بوتقة واحدة لمواجهة النظام الحالي، ولكن تلك الدعوة قوبلت بهجوم واستهجان من أصوات عديدة من المنتسبين للتيار المدني، أو المجموعات الثورية بسبب الهجوم السابق، وتخوين لجان إلكترونية محسوبة على جماعة الإخوان المسلمين والتيار الإسلامي كل من دعا للمشاركة والتصويت بـ لا في الاستفتاء.
وعلى الرغم من استمرار ذلك التناحر على الإنترنت بين المنتمين لجماعة الإخوان في مقابل ما يطلق عليه التيار المدني، ظهرت دعوة جديدة إلى التوافق، أطلقها زعيم حزب غد الثورة، أيمن نور، حيث دعا إلى الحوار بين مائة شخصية من مختلف التيارات، اليمين واليسار والشرق والغرب. وكما هو متوقع، قوبلت الدعوى أيضاً برفض كثيرين ممن تمت دعوتهم. وهناك 
عدة أخطاء في دعوة أيمن نور هذه، تسببت في رد الفعل المتشنج أو الرافض، فمثلا تمت صياغة الدعوة وكأن كياناً أو تحالفاً تم تكوينه بالفعل، وليس مجرد دعوة إلى الحوار، وهذا ما تسبب في مشكلات عديدة للشخصيات الحزبية والحركية، مثلاً عندما وجه أنصارهم اللوم لهم بسبب المفاجأة وغياب المعلومة، كما أن تلك الصيغة التي أوحت بتشكيل جبهة جديدة تدار من تركيا قد تسبب مشكلات أمنية لبعضهم في مصر، فقد يتم التنكيل بهم بسبب صياغة غير مسؤولة.
كما أن وضع مائة اسم في قائمة واحدة للتوافق والحوار بدون سابق اتصال، وبدون سابق نقاش، هو ما أدى وسيؤدي إلى تلك البلبلة وردود الفعل الغاضبة. ربما لو كان حاول الاتصال بهم قبل "الشو الإعلامي" لوجد تجاوباً من بعضهم، واعتذاراً مهذباً من آخرين بدون هجوم عنيف على المبادرة كما يحدث الآن، فوضع القائمة بدون استئذان، ومعرفة سابق استعدادهم، يعتبر فعلاً غير لائق بالتأكيد.
كما أن هناك مشكلة وثغرات أكبر في مبادرة أيمن نور، اللجوء مرة أخرى إلى فكرة "لنجلس ونرَ"، أو لنجتمع أولاً ونشكل جبهة، ثم ندرس لاحقاً ماذا نفعل، وهي فكرة أثبتت فشلها بعد الثورة، وتسببت في كوارث عديدة. ربما كان إنشاء الجبهات التي تضم مختلف التيارات من اليمين إلى اليسار قبل ثورة يناير يسهم في زيادة الحماس والاطمئنان للجماهير المتعطشة للحرية والديمقراطية. كان ذلك قبل ثورة يناير، عندما كان هناك هدف واحد للجميع، وهو إزالة نظام حسني مبارك، ولكننا جميعنا رأينا أن فكرة الجبهات الموحدة من اليمين إلى اليسار على أساس ضعيف لم تمنع ذلك التناحر والانقسام والانشقاقات في صفوف الثوار بعد تنحي مبارك، كما أن الخلافات الآن أصبحت أكثر عمقا، ولا يمكن حلها بتلك السهولة والسطحية بمجرّد إعلان جبهة. والمعروف في علوم الإدارة العامة أن الاجتماع الناجح لا بد له من إعداد 
وتحضير جيدين، حتى بشكل مسبق لا يتحول "مكلمة" ومضيعة للوقت، فما بالك بدعوة إلى الجلوس بين فرقاء وخصوم، بدون وجود أرضية مشتركة، وبدون حسم لخلافات وجروح عميقة.
دعونا نتخيل أن معجزة ما قد حدثت فجأة، وأصبح هناك فراغ في السلطة بشكل ما، كما حدث في مصر في فبراير/ شباط 2011، أو كما يحدث الآن في السودان، ما هي الخطوة التالية؟ وكيف سيتم التعامل مع المشكلات المصرية المزمنة في الاقتصاد والصحة والتعليم والأمن؟ وقبل ذلك، هل تم الوصول إلى حلول توافقية في قضايا حساسة كعلاقة الدين بالدولة أو العلاقات المدنية العسكرية، وهي القضايا التي كانت سببا رئيسيا في انقسام جبهات ثورة يناير، ثم الانقضاض عليها من العسكر، بهدف الحفاظ على امتيازاتهم.
نحن في حاجة إلى مبادرة جديدة ومشروع جامع جديد، وطرحٍ يكون أكثر شعبيةً ليجتمع عليه الناس، وليس فقط النخبة المعارضة، مشروع يقدم حلولا مدروسة ومنطقية وإصلاحية للقضايا المتأزمة، مشروع جاهز للتنفيذ الفعلي والعملي، في حالة الوصول إلى السلطة يوما، مشروع يكون محوره الرئيسي أن هذا الوطن يتسع للجميع من دون إقصاء، وأن العدالة الانتقالية أكثر فائدة للوطن بدلا من الانتقام وإبادة الآخر، وأن الحلول الوسطية الصعبة أفضل كثيرا من الصراعات الصفرية، وتوهُّم القدرة على الحسم التي تكلفنا وقتاً ودماً كثيرَين. وقبل ذلك، لا بد أن يتوصل شركاء ذلك المشروع إلى الحد الأدنى من الأرضيّة المشتركة، وهو ما لم يحدث بعد.
DE3D25DC-9096-4B3C-AF8F-5CD7088E3856
أحمد ماهر

ناشط سياسي مصري، مؤسس حركة 6 إبريل، حكم عليه بالحبس ثلاث سنوات، بتهمة التظاهر بدون ترخيص، وأفرج عنه في يناير 2017