طليق لم يطلق سراحه

طليق لم يطلق سراحه

04 مايو 2019
+ الخط -
على الرغم من أن السجين أبلغ المهنئين أنه لم يغادر السجن بعد، غير أنهم يصرّون على التوافد إلى بيته في عمّان، لتهنئته بالخروج من السجن، بل ويعانقونه بشوقٍ ولهفة، ويقدّمون له أسمى آيات التبريك بـ"الحرية" المشتهاة. وليست المسألة لغزًا محيّرًا، خصوصًا إذا عرفنا أن السجين هو تيسير النجار، وأن السجن هو زنازين دولة "المؤامرات" العربية المتحدة، أما التهمة فتدوينةٌ ينتقد فيها موقفا من العدوان على غزة العام 2014، ومن حصارها العربي قبل الصهيوني.
عمومًا زعمت الإمارات أنها أفرجت، أخيرا، عن تيسير النجار، بعد اعتقال تعسفّي في مطار أبو ظبي، تبعته محاكمة كاريكاتورية، زجت به في غياهب السجون، نحو ثلاثة أعوام، وألزمته دفع غرامة باهظة، ليس في وسعه جمعها ولو ادّخر رواتب عمره كلها، ثمّ طردته من أرضها التي باركتها غانيات روسيا وأوكرانيا وتمثال بوذا، على أول طائرة مغادرة إلى عمّان... ولم نملك إلا أن نصدّق الإمارات، غير أن السجين لم يصل. فماذا حدث بالضبط؟
قلنا إن المسألة ليست لغزا يشبه لغز اختفاء موسى الصدر منذ عقود، والذي زعم نظام معمر القذافي المخلوع أنه غادر ليبيا على متن طائرة إيطالية، غير أنه لم يصل إلى روما، وما يزال مصيره غامضًا، لكن ما حدث مع تيسير النجار أنه نسي تيسير النجار في الزنزانة، فلم يصطحبه معه إلى عمّان، وهو ما يوضحه بنفسه عن لغز اختفائه، في إحدى مقالاته: "السجن الأمني الذي عشت فيه بأبوظبي، إذا أردت ان أمدحه، أطلق عليه لقب سجن... هو حقيقة الأمر معتقل... هذا السجن ما يزال يرافقني، فليس من السهل الخلاص من قسوة وألم وظلم وقهر 3 سنوات وشهرين. وكما يقول أحد الحكماء: الظلم في مكان ما يمثل تهديدًا للعدل في كل مكان".
تختصر تلك العبارة سرّ معاناة تيسير النجار، وهو يستقبل مهنئيه الذين ينهالون عليه، وتكشف جانبًا من حيرته وتساؤلاته القلقة عمّا إذا كان عليه فعلًا أن يبسط يده للمصافحة، ويتقبل حقيقة أنه خرج من السجن فعلًا، غير أنه سرعان ما يعود لتحسّس قضبان الزنزانة فيجدها في مكانها لم تغادره، ولم يغادرها، فيضطر إلى مدّ يده من خلالها للمصافحة.
معذور هو تيسير النجار، إذ يكتشف، الآن، أن الحصار ليس على غزة وحدها، بل على كل عربيّ ينتقد هذا الحصار، بفضل الظلال الصهيونية الآخذة في الانتشار والتوسع في معظم العواصم العربية، وأن العدوان لا يقتصر عليها، بل يمكن أن يبلغ كل قلبٍ منشطرٍ أسىً على أطفالها.
معذورٌ، أيضًا؛ لأنه بشخصيته المفرطة في حساسيتها، شعر أن الظلم لن يفارقه، ما لم يتحقق العدل في كل مكان، خصوصًا إذا كان المكان وطنه العربي الذي بات الظلم والجور جزءًا عضويًّا من تربته، بفضل سلالاتٍ من الطغاة الذين لا ينقطع نسلهم عبر التاريخ، من ابن الثقفي إلى محمد بن زايد.
رب قائل إن معضلة تيسير النجار أنه صدح بالحق في الزمان الخطأ والمكان الخطأ؟ لكن هل كان في جلّ صفحات التاريخ العربي زمن صائب، أو في الجغرافيا العربية بقعة صائبة لم تعبث فيها اتفاقية سايكس بيكو وملاحقها المتواصلة؟ هل كان سينجو تيسير النجار، فعلًا، لو نشر تدوينته تلك في القاهرة أو الرياض أو المنامة مثلًا؟ الإجابة لا قطعًا، لأن تلك العواصم العربية وغيرها أصبحت رهنًا لدولة "المؤامرات" العربية العظمى، وأذرعها الأخطبوطية التي تعبث في الجغرافيا العربية وثوراتها، وتسد الطريق على أي محاولةٍ لتحقيق العدل الذي يبحث عنه تيسير النجار.
لم يطلق سراح تيسير النجار بعد، ولا سراحنا نحن أيضًا، ما لم يرفع الظلم عن هذه الأرض، وإلا فسنبقى محض سجناء، يهنئون سجناء بحريةٍ لم تتحقق.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.