شعوب على أسطح المنازل

26 مايو 2019
+ الخط -
في وداع قرص الشمس الغاطس في الطرف البعيد من السماء، كنا نعتلي، نحن صبية الحيّ، أسطح منازلنا لنراقب قذيفة المدفع العثمانيّ القديم، المؤلفة من كومة شرائط وبارود، وهي تصعد إلى السماء، قبل أن تنفجر بلونها القرمزيّ المشعّ، معلنةً موعد الإفطار الرمضانيّ المنتظر، فتتعالى انفجارات صيحاتنا المبتهجة، ونسارع إلى القفز نزولًا على الأدراج؛ للانضمام إلى الموائد الساخنة التي تنتظرنا.
لم نكن نتساءل آنذاك عن مدعاة استخدام المدفع للإفطار والإمساك، خصوصًا أن اختراع مكبرات الصوت كان قد حلّ المعضلة أصلًا، ربما لأن أصوات المدافع كانت جزءًا من ثقافتنا، في زمن الحروب وأغنياتها المنبعثة من كل البيوت والمقاهي ومحلات البقالة: "أصبح عندي الآن بندقية.. إلى فلسطين خذوني معكم"، غير أن الأهم أننا لم نكن نفطر إلا على صوت المدفع فقط، وكأنه مرشدُنا المؤتمن في زمنٍ كانت فيه البوصلة واضحة الاتجاهات: فلسطين في الغرب، حيث تغطس الشمس باكية، والعرب في الشرق، حيث ترتفع العتمة إلى أقاصي الهزيمة.
كان زمنًا قرمزيًّا عشناه بكل جوارحنا، لا حبًّا في المدافع، بل لأن المرحلة ذاتها كانت تتطلب مثل هذا الاستنفار العسكري، في معسكرات الجند والبيوت، معًا، إذ كان ثمّة تناغم عميق بين الطرفين، وكأن الناس تكرّم جنودها المرابطين على جبهات القتال.
أما اليوم، ومع تبدّل الأحوال والمقامات، فقد أصبح المدفع "تراثًا" غير متجدّد، لا يصلح إلا للعرض الخجول في المتاحف. ومع هذا التبدل المقيت، دخل العرب مرحلة صيامٍ مزمن حتى من دون أن يشعروا، ولو عمّرت موائدهم وطفحت مشاربهم، فشتان بين مائدتين؛ الأولى فقيرة الطعام وفيرة الكرامة، والأخرى وفيرة الطعام شحيحة الكرامة.
في رمضاناتٍ غابرة، لم نكن نشهد تلك الحمّى التي ترافق الإعداد لموائد الإفطار كما نشهدها اليوم، كان يكفي أن "يفطر الصائم على بصلة"، فيشبع ويحمد؛ لأنه أفطر على صوت المدفع، قبل أن يفطر على الموائد. أما اليوم فيتزاحم الناس تزاحم الزبد في البحار لابتياع كل شيء، وبلا أي شعور بالشبع، وكأنهم يسعون إلى تعويضٍ بائسٍ عن ذلك الإحساس الذي يفتقدونه، في غياب أصوات المدافع، أما النتائج فتظلّ صومًا مزمنًا، لا ينتهي ولا حتى إلى "بصلة".
تنبّهت دول عربية إلى خطورة هذا النقص الذي يشعر به مواطنوها، فارتأت أن تعيد الاعتبار للمدفع العثماني القديم، بقذائفه الشريطية، وفي أذهانها أن تخضع شعوبها إلى نوعٍ من "الخداع النفسي"، على غرار "الخداع البصري"، لتمتصّ إحساسهم بفقدان الكرامة، على قاعدة أن "صوت المدفع" هو المهم في نهاية المطاف، وليس المدفع ذاته، أو اتجاه فوّهته، طبعًا بعد الحصول على موافقات أمنية مسبقة من إسرائيل ربما؛ لأن المدافع العربية، عمومًا، باتت ممنوعةً من الإطلاق، ولو على سبيل "التراث"، اللهم باستثناء استخدامها لأغراضٍ داخلية في مواجهة الشعوب العربية أنفسها، أو لاستخداماتٍ بينية، أي بين الدول العربية ذاتها، فهذا سلوك مبارك ومحمود من إسرائيل وأميركا، وحاصلٌ على رخصةٍ مفتوحةٍ لا تحتاج مراجعاتٍ وموافقاتٍ مسبقة.
أما دعاة الحروب، من أمثالي، الذين يرون في غصن الزيتون في يد المهزوم راية استسلام لا سلام، فليس لهم مكان إلا على أسطح المنازل فقط؛ وليواصل مثل هؤلاء صومهم الأبديّ المزمن؛ لأن أصوات المدافع الحقيقية لم يعد لها مكان في زمن "السلام" الذي أصبح شعارًا رومانسيًّا تتغنّى به الأنظمة، وتنظّم في سبيله أغاني المرحلة "البيضاء"، حيث لا مكان إلا لإفطار الطغاة على كرامة شعوبهم وحرياتهم، ولا مائدة تبسط إلا للغزاة والمحتلين ومدافعهم التي يحقّ لها وحدها أن تلعلع في سمائنا، لتُؤذن بغروبٍ أبديّ للشمس العربية.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.