في مصائر أسرى داعش

12 ابريل 2019
+ الخط -
ثمّة غموض يكتنف مصائر مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الذين استسلموا أو وقعوا أسرى بيد قوات سورية الديمقراطية (قسد) وقوات التحالف الدولي، فالحديث عن هؤلاء بات يبهت ويخبو، فضلاً عن مصائر عائلاتهم، وإذا كان لا بد من تذكيرٍ يتناول أرقاماً تقديرية فإن الحديث يدور عن ستة آلاف مسلّح، بينهم ما ينوف عن ألف مقاتل أجنبي، وما يربو على خمسة وثلاثين ألف سيّدة وطفل، هم قوام أسر التنظيم المقيمين في مخيّم الهُول المعدّ لغرض احتواء هذا العدد الغفير الذي يتطلّب أنظمة مراقبة وحماية وخدمات خاصّة.
على عكس عقوبة الإعدام المعمول بها في العراق، حيث تحزّ المشانق بشكل متواتر رقاب أعضاء التنظيم المتورّطين بأعمال قتل أو اغتصاب، حظرت الإدارة الذاتية العمل بهذا العقوبة، والتي تعتبر عقوبة ملغاة في مناطق سيطرة "قسد" وفقاً لنظامها القضائي الخاص، ما يعني أن أسرى "داعش" لن يتم اقتيادهم إلى منصّات الإعدام، مهما بلغت درجة جرائمهم السابقة، كما يعني أن عدد الأسرى لن يتناقص جرّاء هذه العقوبة المانعة للحياة.
يتكوّن نسيج المقاتلين الأسرى من جنسيات 48 دولة أجنبية، غير أن مطالبات الدول باستعادة مواطنيها الأسرى يكاد يكون مقتصراً على بعض الدول دون غيرها، إذ تتربّع روسيا في صدارة الدول الساعية إلى استعادة مقاتليها المنضوين في التنظيم، وكذا عائلاتهم، ودائماً عبر ممثلي جمهورية الشيشان، بيد أن معظم الدول ترفض، أقله حتى اللحظة، استعادة مواطنيها، كفرنسا وبلجيكا وألمانيا. والنقاشات المتّصلة بسحب الجنسية من مواطني بعض الدول الأوروبية الذين انضووا في التنظيم لاحقا بات يشكّل أحد المخارج الحادّة التي يجري الحديث عنها في غير بلد أوروبي، وكأن الحل الأسهل هو إغماض العين، بدل التمعّن في مصائر من كانوا مواطني تلك الدول، وكأن رابطة المواطنة يمكن أن تُفسخ بهذا الشكل الانهزامي، علاوة على أن مثل هذا المسلك قد يُلهم الاتجاهات اليمينية والشعبوية الصاعدة، لتطاول مواطنين آخرين من أصول مهاجرة بذرائع مشابهة.
على الرغم من تهديد الرئيس الأميركي، ترامب، حلفاءه الأوروبيين، عبر تغريدة غاضبة في 
16فبراير/ شباط 2019، إن الولايات المتحدة تطلب منهم استعادة أكثر من ثمانمائة من مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية الذين تم أسرهم في سورية وإحالتهم إلى المحاكمة، واختتمها بالقول "الخلافة على وشك السقوط، البديل ليس جيداً، حيث إننا سنضطر إلى إطلاق سراحهم"، إلّا أن الصمت الأوروبي تواصل، ولعل السبب أن تصريحا كهذا، وإن كان صادراً من رئيس أقوى دولة، لا يمكن أن يكون إلا مجرّد كلام غاضب، إذ كيف ستطلق أميركا سراح مئات المقاتلين الذين تكبّدت لأجل القضاء عليهم مليارات الدولارات!
لم يكن الموقف العربي مغايراً للموقف الأوروبي بفارق أن هشاشة الأوضاع الداخلية في تلك الدول قد تجعل من العقوبات القاسية التي قد تطاول مقاتلي التنظيم مقدّمة لمشكلاتٍ هي في غنىً عنها، فوق أن الأنظمة القضائية العربية غير متحفّزة لاختبارٍ ثقيلٍ كهذا.
في وقت سابق، أطلقت قوات سورية الديمقراطية سراح عشرات من أعضاء التنظيم، معلّلة الأمر بعدم خطورة المفرج عنهم، بعد أن تقدّم وجهاء وممثلون عن عشائر عربية، بوساطات مرفقة بضمانات بألّا يعاود المفرج عنهم الكَرّة. وفي إزاء ذلك، تكرّرت دعوات "قسد" إلى الدول المعنية بوجوب استلام مواطنيها الذين في عهدتها، إلا أن هذه الدعوات قوبلت بالتجاهل، الأمر الذي حدا "قسد" إلى دعوة المجتمع الدولي "إنشاء محكمة دولية خاصة لمحاكمة 
"داعش" في شمال شرق سورية.. وأن تتم المحاكمة بشكل عادل، ووفق القوانين الدولية، وبما يتوافق مع العهود والمواثيق المعنية بحقوق الإنسان"، أما المستند القانوني لمطلب "قسد" هذا فيتمثّل في أن المسلّحين يجب أن يخضعوا لمحاكمة في "مكان وقوع الفعل الجرمي". وبطبيعة الحال، قد يروق مقترح كهذا لدول عديدة ترفض استعادة مواطنيها، غير أن العقبة الكأداء تتمثّل في أن الأمر سابقة في مجرى القانون الدولي، على الرغم من وجود أمثلةٍ يُقاس عليها كمحاكمات نورنبيرغ التي حاكمت كبار رجالات الحكم النازي الألماني، أو محاكمة مجرمي الحرب في يوغسلافيا، إلّا أن هذه الأمثلة لا تشبه حالة مقاتلي التنظيم الذين يحملون جنسياتٍ مختلفة، كما أن المحكمة الخاصة ستكون في إقليمٍ لم يحظَ باعتراف دولي واضح. والأهم من هذا وذاك، سيصبح السؤال عمن هي القوى المنوط بها تنفيذ الأحكام الصادرة عن هذه المحكمة.
في مجمل التصوّرات، تظهر "قسد" أنها أكثر المستفيدين من الوضع القائم أو الأوضاع المفترضة، ففي حال تنفيذ مقترح المحكمة الخاصّة، ستتحوّل "قسد" من قوة محلّية ساهمت بفاعلية في القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية إلى ما يمكن أن يطلق عليه "الحارس" المفوّض دولياً، وسواء تشكّلت المحكمة أم لا، فإن أسرى التنظيم باتوا في حكم المكافأة المجزية لـ "قسد" التي بات جزءٌ من مصيرها مرتبطاً بمصير أسراها، إذ إنّ تداعي الأوضاع شرق الفرات سيكون له الأثر البالغ في إمكانية استعادة التنظيم عافيته، أو ربما سعيه إلى عملياتٍ ثأريةٍ لا يمكن التنبؤ بدرجتها ومداها.
ستبقى مصائر أسرى "داعش" وعائلاتهم معلّقة إلى حين التوافق على حل موضوعي، يؤدي إلى إخماد كرة اللهب هذه بدل تقاذفها، ولعل مطلب المحكمة الخاصّة، وإن كان سابقة، قد يلقى آذاناً صاغية من الإدارة الأميركية، إذ يقول مثل أميركي: لكل شيء مرّة أولى.