تبعات النقد الفرنسي للنظام المصري

تبعات النقد الفرنسي للنظام المصري

03 فبراير 2019

السيسي وماكرون في مؤتمر صحفي في القاهرة (28/1/2019/فرانس برس)

+ الخط -
وجّه الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في زيارته مصر أخيرا، أقوى انتقادات علنية للرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، منذ صعوده إلى سدة الحكم. فلم يسبق لرئيس أجنبي أن انتقد سجل مصر في حقوق الإنسان خلال عهد السيسي بهذا الوضوح والعلانية، وفي حضور السيسي نفسه، وهو ما يجعل من انتقادات ماكرون هذه حدثا يستحق التوقف عنده لفهم أبعاده وتبعاته.
قبل صعوده الطائرة متوجها إلى مصر، نشرت وكالات ووسائل إعلام دولية تحليلاتٍ تفيد بشعور ماكرون بالإحباط من سياسات السيسي على صعيدين: تراجع القاهرة عن توقيع مزيد من صفقات الأسلحة والمشاريع الاقتصادية الضخمة مع فرنسا، منذ صعود ماكرون إلى السلطة في مايو/أيار 2017. مقارنة بصفقاتٍ وقّعها السيسي مع الرئيس الفرنسي السابق، فرانسوا هولاند، وصفقات أخيرا مع دول أوروبية أخرى كألمانيا. سجل مصر في حقوق الإنسان في ظل النقد الذي يتعرّض له ماكرون داخليا منذ استقباله السيسي في الإليزيه في أكتوبر/تشرين الأول 2017. في ذلك الحين، كان ماكرون حديث عهدٍ بالسلطة. وخلال اجتماعه بالسيسي، قدم له قائمةً بأسماء بعض نشطاء حقوق الإنسان المصريين المعتقلين، والذين تدعم فرنسا الإفراج عنهم لأسباب حقوقية.
ويبدو أن السيسي ردّ على ماكرون بردوده المعتادة عن التحدّيات الأمنية التي تواجه مصر، وخطر التيارات الدينية، وأهمية الأمن والاستقرار، فاقتنع ماكرون، بقلة خبرته في ذلك الحين، وتراجع أمام حجج السيسي. وهو جعله يقول، في مؤتمرهما الصحافي في باريس، إنه لن "يحاضر" على مصر بخصوص الحقوق المدنية.
لذا، بدا ماكرون أكثر إصرارا على تسجيل نقده العلني لسجل السيسي في حقوق الإنسان هذه 
المرة. ففي بداية رحلته، أخبر الصحافيين المرافقين له بأن "السياسات الراهنة يراها المثقفون والمجتمع المدني في مصر أقسى مما كانت خلال عهد مبارك... الأمر بات معضلا ومضرّا لمصر نفسها". وفي المؤتمر الصحافي الذي حضره السيسي وماكرون في القاهرة، بدا واضحا عدم رضا السيسي عن تصريحات ماكرون، حيث ذكر السيسي في كلمته المكتوبة "الشعب المصري صاحب الحق في تقييم مدى ما يتمتع به من حقوقٍ سياسية". ومع بدء الأسئلة القليلة التي سمح بها المؤتمر، وجّه صحافي مصري موال للنظام انتقادات لاذعة لماكرون بسبب تصريحاته، ما دفعه إلى تكرارها في حضور السيسي، قائلا إن "الاستقرار والسلام يمكن أن يسيرا جنبا إلى جنب مع احترام الكرامة الإنسانية وحكم القانون والبحث. البحث عن الاستقرار لا يجب أن ينفصل عن السؤال عن حقوق الإنسان"، مؤكدا مجدّدا على "تضرّر صورة مصر".
وردا على تلك التصريحات، انفجر السيسي (في المؤتمر الصحافي) في حديث غاضبٍ بلا توقف عدة دقائق، مكرّرا على مسامع ضيوفه حديثه المعتاد عن نظرته إلى حقوق الإنسان في مصر، والتي تقوم على فكرة أن حقوق الإنسان ليست سياسية فقط، وأن حق الإنسان في الأمن والاحتياجات الاقتصادية الأساسية هما أولويات النظام المصري في الوقت الراهن. ولم ينس أن يذكّر ضيوفه الفرنسيين بأنه أنقذ مصر من خطر إقامة "دولة دينية"، وخطر الإرهاب، وأنه يكافح لتوفير احتياجاتهم الاقتصادية، وأن مصر "لن تقوم على المدوّنين".
ولعل هذا الجدل العلني هو أسوأ ما تعرّض له السيسي، في مؤتمراته مع قادة الدول الغربية منذ توليه السلطة، وهو يأتي بعد ثلاثة أسابيع تقريبا من فضيحة مقابلة السيسي مع برنامج "ستون دقيقة" الأميركي الشهير، والتي سعى النظام المصري إلى الضغط على مسؤولي البرنامج لعدم إذاعتها، لما تضمنته من انتقاداتٍ مباشرة لسجله الحقوقي.
ويطرح تكرار تلك الانتقادات الخارجية بهذا الشكل، في فترة زمنية قصيرة أخيرا، أسئلة مهمة 
بشأن التوقيت والأسباب والتبعات، فهل هي بداية شقوقٍ قد تكبر في جدار الصمت الدولي على كل الانتهاكات الحقوقية والسياسة التي شهدتها مصر منذ انقلاب يوليو/تموز 2013؟ وما هي أسبابها وإمكانية تطورها؟
لا يمكن فصل انتقادات ماكرون والضجة التي أثارتها مقابلة "ستون دقيقة" عن السياقين الدولي والإقليمي، وأنهما تعبران عن تطور مهم في موقف الخارج تجاه ما يجري في مصر والمنطقة. وترتبطان بالحدث الإقليمي الأهم على هذا الصعيد، وهو اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي، في قنصلية بلاده في إسطنبول، في أكتوبر/تشرين الثاني الماضي، فقد كان ذلك الاغتيال الوحشي والصادم بمثابة القشّة التي قصمت بعير الصمت الغربي تجاه النظم الاستبدادية في المنطقة. وهو صمتٌ امتد منذ عام 2012 تقريبا، بعد أن انتشرت حالة من الفوضى وعدم الاستقرار في المنطقة، بسبب ردود فعل النظم الاستبدادية تجاه انتفاضات الربيع العربي، فانزلاق سورية إلى العنف، وانقسام الشعب الليبي، وتأزم التغيير في مصر واليمن، وضغوط السعودية والإمارات وإسرائيل ونخب الاستبداد على الدول الغربية، وابتزازها بالحروب واللاجئين والجماعات الدينية العنيفة، دفعت الدول الغربية إلى التراجع سريعا عن دعمها الخجول الثورات.
وبمرور الوقت، وتراجع "داعش" وموجات اللاجئين، وعودة الأنظمة بعنف أشد وقمع أوسع، تراجع قلق الغرب من تهديدات الربيع العربي التي نشرتها الثورات المضادة من ناحية. وتراجعت قدرة الأنظمة الاستبدادية على شراء صمت الغرب أو تخويفه من ناحية أخرى. وبدا واضحا للغرب أن قمع نظم الاستبداد العربية هو سياسات أصيلة عمياء، تعبّر عن أزمة النظم نفسها أكثر من أي شيء آخر. وثقبت حادثة مقتل خاشقجي، والتي يُتهم فيها ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، جدار الصمت الغربي على أكبر نظم الثورة المضادة في المنطقة. حيث تعرّضت السعودية لانتقادات لاذعة من دول غربية مختلفة، مثل كندا وألمانيا وأكبر المؤسسات الحكومية الأميركية. وتعالت مطالب وقف الدعم الغربي للسعودية والإمارات في حرب اليمن. وتبدو انتقادات ماكرون و"ستون دقيقة" للسيسي جزءا من تلك الموجة، خصوصا بعد تراجع قدرة السيسي على شراء مزيد من الأسلحة الفرنسية باهظة الثمن، وتراجع قدرته على تخويف الغرب من الفوضى في مصر.
هذا تطور إيجابي يتوقع له الاستمرار. ولكن يجب أن نكون حذرين في التعامل معه لسببين: 
أولهما أن النظم العربية الاستبدادية باتت أكثر شراسةً في الدفاع عن أنفسها. وباتت تتعامل مع قضايا الديمقراطية باعتبارها تهديدا وجوديا لها، بعد ما شهدته خلال الربيع العربي. وباتت أكثر استعدادا لرفض الضغوط الغربية، خصوصا مع تراجع الاهتمام الأميركي والغربي في المنطقة. وهو ما ظهر في ردود السيسي على ماكرون، ومقاومة نظامه ضغوطا سياسية وحقوقية مختلفة ومستمرة للإفراج عن بعض المعتقلين، صحافيين ونشطاء حقوقيين.
السبب الثاني، أن جدار الصمت الغربي قائم على جدار هائل من المصالح المشتركة بين النخب الأمنية والاقتصادية الغربية ونظم المنطقة. وهو تحالفٌ قديمٌ وعميقٌ، فضحته الثورات العربية. حيث بدا واضحا أن تحالف الغرب مع النظم الاستبدادية راسخ. وأن الانتقادات الحقوقية التي يطلقها الغرب على فتراتٍ تجاه الدول العربية لا تترجم إلى سياساتٍ إلا نادرا. وأن نشر الديمقراطية ليس من أولويات الغرب في بلادنا. وأن الغرب لا يمارس أي ضغوطٍ حقيقيةٍ على النظم العربية، على صعيد التحول الديمقراطي، بسبب تشابك مصالحه الأمنية والاقتصادية الضيقة مع تلك الأنظمة.
باختصار، نقد ماكرون للسيسي ثقبٌ مرحبٌ به في جدار الصمت الغربي على ما يحدث في مصر. وهو تطور يجب تشجيعه والاستفادة منه إعلاميا وحقوقيا. ولكن هذا الترحيب به لا يجب أن ينسينا أن النظم العربية الاستبدادية تنظر إلى الديمقراطية والحريات خطرا وجوديا. وأن الغرب دعم ويدعم تلك الأنظمة تاريخيا، مدفوعا بمصالح أمنية واقتصادية ضيقة. ولذا يجب أن نرحب بكل تطور إيجابي ولو صغير، ونحاول الاستفادة منه من دون يأس أو تهويل.