لا مكان لليسار في هذه الانتفاضة المباركة

لا مكان لليسار في هذه الانتفاضة المباركة

07 نوفمبر 2019
+ الخط -
بالأمس: تظاهرة يُفترض بها أن تنطلق من المصرف المركزي، في حيّ الحمراء، وحتى رياض الصلح، في وسط البلد، حيث مركز الانتفاضة البيروتي. نحتشد مع الأصدقاء القدماء، القلائل، ونندهش من صغر عمر الغالبية العظمى من المشاركين: "هم ليسوا من عمر أولادنا، إنهم أصغر منهم. يكادون يقتربون من عمر أحفادنا"، أقول ليوسف. أجول بالنظر ثانية، باحثة عن مجايلين، أقترب من مقدمة التظاهرة، وفي سرّي ربما، تلك العادة القديمة، بأن أرى فيها "القياديين" و"الأمناء العامّين" و"الشخصيات الوطنية". ولكن، نصف مفاجأتي، أن الذي يقود هذه التظاهرة هم أولاً شابات يافعات، غير "تاريخيات"، يطلقن شعارات اللحظة والمكان. وهذا الأخير، "المكان"، يحتاج إلى بعض السرد، لنفهمه، نحن جيل المعتادين على الشعارات المدروسة، والتي وافقت عليها القيادة مسبقاً: فأمام المصرف كان الشعار "كلن يعني كلن، والمصرف واحد منن! وسلامة (مدير المصرف) واحد منن (منهم)!"؛ ولكن عندما تصل التظاهرة إلى حيّ الخندق الغميق، وهو المكان الذي انطلق منه شبيحة حركة أمل وحزب الله، منذ أيام، لينقضّوا على مركز الاعتصام، في وسط البلد، ضرباً وحرقاً وتدميراً وسرقة. صرخت الشابة، قائدة التظاهرة، من الميكروفون بشعار آخر مبدع: "يللي ساكن بالخندق نحنا بنفس الخندق!" (إلى الساكن في الخندق، نحن في نفس الخندق). 
المهم، بعد هذا الاستطراد، أننا ما زلنا ننتظر الانطلاق. أعود إلى الصفوف الخلفية، وأحاول 
التعرّف على مزيد من الوجوه. بل أخرج قليلا من وسطها، وأنتقل إلى الرصيف، لعل وعسى.. فماذا أجد أمامي؟ أمينا عاما سابقا لحزب يساري، هو الأقدم في لبنان، والمعروف بمجاراته لأقوى حزب حاكم، أي حزب الله، واقفاً تحت الشجرة، يجول بنظره على المتظاهرين، وفي عيونه عَتمة مجبولة بالأسى والذهول. أحدس قليلاً سببها. وأسال صديقي اليساري السابق، الواقف هو أيضا في الخلف، لأمتحن ما فهمته من سبب انطفاء بريق عينَيه. أقول له إن الأمين العام هذا، الواقف وحده تحت ظل الشجرة، ربما يتحسّر على كونه ليس في مقدمة التظاهرة، هو وأقرانه من "القادة"، كما اعتاد أن يكون في زمن آخر.
فكان جواب صديقي سخرية بالغة، قاسية، ومتطرفة بحق أبناء جيلي الذين تجاوزوا الستين من العمر. لن أنقلها هنا، منعاً لتثبيط العزائم. لكن هذا الجواب استحضر من غير قصد قصة هذا الجيل من اليسار، عشية الانتفاضة المباركة. ماذا كانت تفعل الأحزاب و"الشخصيات القيادية" والمجموعات اليسارية، في هذه العشية؟ مشاريع لا تُحصى لـ"تجديد اليسار". مشاريع فردية، جماعية، ليساريين سابقين أو متأخرين، تتراوح مواقفهم من الأحزاب الحاكمة بين مؤيد بخجل لأقواها ومغمْغم ومتمْتم، وبين رافض لها رفضا جذرياً. الانتفاضة باغتتهم جميعاً، وذكّرتهم بكمّ الاجتماعات والنقاشات والندوات والمجلات والنظريات والتحليلات التي بذلوها ليجمعوا حولهم اللفيف المناسِب من المواطنين، لينطلقوا "جماهيرياً" كما كانوا يفعلون أيام الازدهار اليساري، أي منذ نصف قرن تقريباً. ولكنهم كانوا يُخذلون كل مرة، بالكاد يلتقطون واحداً من هنا وآخر من هناك، لا يلبثا أن يفْلتا من بين أياديهم بعد حين.
وإذا بجلّها الآن، تلك الأحزاب والشخصيات والمجموعات، تصيبها الدهشة، ومن بينها "خبراء" متفوّهون ووزراء سابقون في العهود الممقوتة؛ تماماً كما حاولت أحزاب السلطة أن تفعل، وإن بأسلوب آخر: نصبوا لأنفسهم الخيم، ويوزّعون المناشير، أو يبيعون المنشورات، وكأنهم بذلك يودّون القول إنهم كم كانوا على حق عندما تلفّظوا بكذا أو كيت من المواقف. "كم كنا على حق"، وهم متوترون، وبعبارات منمّقة مجرّبة، ضليعة في تمويه المعاني. والغاية كلها أن يبقوا لأنفسهم دوراً في هذه المعْمعة، والمفضَّل أن يكون هذا الدور في القمة، كما اعتادوا.
والحال، أن حالة اليسار هي حالة تُناقِض تماماً الانتفاضة الراهنة. في عزّها، ستينيات القرن وسبعينياته، كانت حالة انقسامية، بين يمين/ يسار. وخاضت الحرب الأهلية بين المسلمين والمسيحيين، تحت برنامج "الحركة الوطنية اللبنانية". وفي هذه الأثناء، شهدت موجات قياسية من الانشقاقات في صفوفها اليسارية، ذات الأيديولوجيا الواحدة. خمدت قليلاً في بداية "السلام الأهلي"، وراحت تنقسم حول أكبر الأحزاب الحاكمة، مع أو ضد حزب الله؛ وما بينهما من مواقف لم تخلُ يوماً من المطّ الإنشائي والكلام المعْلوك. وكانت حالة اليسار أيضاً، حالة جاهزة من التمرْكس السريع، (ماركس)، والتأدلج على الطريقة السوفييتية، أو الطريقة "الجديدة"، التي كانت تعتبر نفسها أكثر "ثورية" من الأولى. ثم كان اليسار حالة برّانية، تتوسل، ليس فقط جديد الماركسية وقديمها، إنما أيضاً القوة العسكرية والهيمنة العاطفية، من خلال شعبية القضية الفلسطينية، وسلاحها، بعد استظلاله بقبّة الاتحاد السوفييتي العظيم. كانت حالة نظرية، تستدعي ثلاثية القائد والتنظيم والأيديولوجيا، على الطريقة البلشفية، وإن كانت تزوّغ في أحكام هذه النظرية (انظر إلى آخر اختراعات هذا "الثلاثي" في النصائح التي يوجّهها يساري عتيق إلى الانتفاضة، بما توفّر لديه من أفعال "يجب" و"ينبغي": أسعد أبو خليل "نحو مشروع لتغيير ثوري في لبنان"). وأخيراً، كانت حالة فاشلة بكل المعايير، يكذب حاملو مشروعها "المتجدّد" على الأصغر سناً، عندما يقولون إن زمن هذا المشروع كان "عصراً ذهبياً". وهذه مفارقة: كيف يستطيع الفاشل أن يزيّن تاريخه بهذا الكمّ من الأباطيل؟
تعود فتواسي نفسك وتطلب منها الرحمة على رجالٍ يشبهون ملكات جمال الكون: لا يستطيعون
أن يتصوروا بأن عروشهم سقطت، لطول سنوات إدمانهم عليها، وبأن تاج الطليعية - الجمال انتقل من زمااااااان إلى الأكثر نداوة وحيوية؛ وقد تكون هذه واحدةً من عيوب العمر، مثل عيوب المواظبة على أنها "الأجمل من بين النساء"، لا يحسن الضحك عليها، بل الإشفاق بالأحرى.
على هؤلاء المحاوِلين ركوب الموجة، أقول إن الانتفاضة الراهنة لا هي تقسيمية، ولا تنظيرية، ولا جاهزة، ولا برّانية (على الرغم من اتهامات التمويل الباطلة، الآتية من قيادة الأحزاب الحاكمة)، ولا فاشلة، ولا منظمة، ولا باحثة عن قائد "ملهم"، أو عن دعم إحدى القوى الإقليمية. هؤلاء الشبان يقودون أنفسهم بأنفسهم، تُصاغ "النظرية" عندهم بالتجربة الملموسة. لذلك أيها اليساري القديم، الذي تجاوز الستين من العمر، وأنا واحدةٌ منك، لا تضيّع وقتك ووقتنا ووقتهم في التنظير عليهم بكلام خنْفشاري. لا تحاول أن تصادر أدوارهم، ولو بطريقة "ناعمة". وإذا ناقشتهم، هؤلاء الشباب، فحاول أن تتعلّم منهم، أن تتغذّى بحيويتهم ومواهبهم ومهاراتهم الجديدة عليكَ، ولا تحاول إسقاط تجربتكَ الخائبة على تجربتهم. فلا حاجة لدى هؤلاء الشباب لليساري السابق، أو الباقي، إلا بهذا القدر. وإذا أردتَ أن تكون مفيداً، ميدانياً، فتواضَع، واحسب أن مجرّد احتلالك مترا مربعا من تظاهرات أولئك الشباب هو إنجاز لهم ولكَ. إذ تكون قد دعمتهم بالروح وبالعدد، وخدمتَ نفسكَ بأن أرحتَ ضميركَ، وحرّكتً عظامكَ الآخذة في التكلّس.
فهذه الانتفاضة هي أول فعل ثوري لبناني، خالص. حتى لو أخفقتْ الآن في تحقيق أهدافها، فإنها سطّرت في ذاكرتنا أقوالاً وأنغاما وألوانا وأشكالا وشرائط فيديو وطرائف وشعارات ومواقع وصورا، ونساء وشابات... هي زادنا في سفرنا القادم نحو الزمن. هذه الانتفاضة هي ربما، التجربة التأسيسية الحقّة، الملهمة لثورات مقبلة، على غرار عامية انطلياس وثورة الفلاحين.. وليس على هيئة شخصيات وأحزاب، كشف الزمن عن عوراتها، ولكنها لم تثنِ أصحابها عن المحاولات دائمة الفشل.. أما إذا اختار بعضٌ من أجنحتها أن يكون يسارياً، فليتولّ أمر هذه الإرادة شبابٌ، مثل تلك المجموعة من الشباب، "الحركة الشبابية للتغيير"، التي حاولت اقتحام جمعية المصارف، والمعلِنة عن "ماركستها - لينينتها"، بنسختها الفوضوية الماوية. أو شباب الحزب الشيوعي اللبناني، الذين سبقوا قيادة حزبهم إلى الساحة، بشرط تجاوزها؛ أو أي شباب آخر يرى في الماركسية - اللينينية درباً مضموناً لنجاح انتفاضتهم. ولكن شباب، شباب فقط، فلا مكان لليسار في انتفاضتهم، إلا بقراءتهم الخاصة له، من دون وسطاء، ولا موالي ولا مفسّرين، هربوا يوماً كاللصوص من الهزيمة، وعادوا إلينا كأن شيئاً لم يكن.