المشهد الحزبي المغربي يتحرّك

03 أكتوبر 2019
+ الخط -
عرف المشهد الحزبي المغربي، في الأشهر الأخيرة، جملة من المؤشِّرات الدَّالة على معالم تحوُّلات مرتقبة، لا نتصوَّر أنها ترتبط فقط ببداية استعداد هذه الأحزاب للاستحقاقات الانتخابية المقرَّرة سنة 2021. كما أنها لا ترتبط بالتعديل الحكومي الذي يتجه إلى تشكيل حكومة كفاءات، يكون بإمكانها بلورة البرامج المساعِدة في عملية مواجهة مظاهر التردّي والانحباس التي عَمَّت قطاعات العمل والإنتاج. 
ترتبط الحركة القائمة اليوم، في مختلف الأحزاب المغربية بدرجات متفاوتة وبدون استثناء، من جهةٍ، بمواقف النظام السياسي من العمل الحزبي ومآلاته داخل مجتمعنا، حيث يعرف الملاحظون أن التعدُّدية الحزبية المغربية تخضع، بصورة أو بأخرى، لبعض خيارات النظام السياسي السائد، ذلك أن الأحزاب السياسية، وإن كانت تتمتع باستقلاليتها السياسية والإيديولوجية، إلا أنها ظلت، طوال تاريخها الذي يقترب من إتمام قرن، حيث ظهرت التشكيلات الأولى لأنوية الحركة الوطنية في الثلث الأول من القرن العشرين، ظلت سجينة حرص النظام السياسي، وطوال عقود القرن الماضي، على أن يكون قريباً من مختلف صور الحركة التي تنشأ داخلها. وقد تَمَّ له ذلك بطرق وأساليب عديدة، تحدِّدُها صور التواطؤ المعلنة والمضمرة القائمة بينه وبين مختلف الأحزاب السياسية، سواء منها التي اختارت، في لغتها أو في مواقفها المحافَظَة على مسافة معينة مع النظام، أو تلك تُعَدُّ بطريقة أخرى مجرّد أحزابٍ إدارية، بالمصطلح المتداول في الثقافة السياسية المغربية.
تساهم المعطيات أعلاه في فهم أشكال الحركة السارية اليوم في أغلب الأحزاب المغربية، وهي 
تُعَدُّ بمثابة عنوانٍ لوعي يروم مزيداً من تكييف الأدوار الحزبية مع المتغيرات والتحدّيات التي يواجهها اليوم العمل السياسي في مجتمعاتنا. ويمكن أن تستوعب ضمن دائرة المخاضات التي قد تفضي إلى مشهدٍ حزبيٍّ جديد، كما تفضي إلى نوعٍ من نفض اليد من الآليات والمؤسسات التي ترتبط بمشروع الإصلاح الديمقراطي.
إذا كان مؤكّدا أنه لا يمكن استبعاد علاقة الحركة القائمة اليوم في مشهدنا الحزبي بصور النقد العنيف الموجه من الشباب إلى آليات العمل الحزبي في مجتمعنا، فإننا يمكن أن نفهمها أيضاً باعتبارها محاولةً كاشفةً لبعض الجوانب المرتبطة بمزيد من ضبط علاقاته بما تُنْتِجُه الفضاءات الافتراضية والشبكات التي تُتابِع وتشارك في كل ما يعرفه المشهد السياسي، حيث تحمل الفضاءات المذكورة مؤشراتٍ تتقاطع فيها الأصوات، وتتداخل المواقف، وتحضر مليشيات الأحزاب، كما يحضر نوع من الفاعلين السياسيين الرافضين مختلف الأحزاب السياسية، الأمر الذي يُبْرِز صعوبة إدراك طبيعة الحركة التي تجري اليوم في المشهد السياسي، بعد تراجُع الإسلاميين وفشلهم في تدبير السياسات العمومية، وانتهاء الزمن الذي كانوا يعتبرون فيه أن أحزابهم وتنظيماتهم الدعوية بعيدة كل البعد عن أي اختلافاتٍ أو تناقضاتٍ يمكن أن تساهم في خلخلة أركانها، أو تُضعف موازين حضورها، فقد صنعت المعارك السياسية المتعلقة بعلاقة حزب العدالة والتنمية مع الأغلبية التي يترأسها، ومع طبيعة مكوّناته التي انخرطت في تدبير السلطة، ومع المعارضة التي تقف له بالمرصاد، ما يُبرز نهاية المتاجرة بالطهرانية.. ساهم كل ما تم ذكره في إبراز كثير من أعطاب وتناقضات من يمثلون الأغلبية الحكومية المكلَّفة اليوم بتدبير الشأن العام.
وفي السياق، بادر حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية إلى الدعوة إلى التفكير والعمل من أجل يسار جديد، يساهم في وقف المد المحافظ، وينخرط في مواجهة التحدّيات المطروحة اليوم في مشهدنا السياسي. وجاءت مبادرته في سياق إعلانه الاحتفال بذكرى مرور ستة عقود على تأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية (1959). يتوخَّى الحزب من مبادرته إعادة بناء مختلف تيارات اليسار في قطب جامع، يوقف مسلسل التراجعات الحاصلة في المشهد السياسي المغربي، بعد تمكُّن الإسلام السياسي من الهيمنة، وسعيه المتواصل إلى مواصلة وقف قيم الحرية والتحديث في مجتمعنا، فهل ينجح الاتحاد الاشتراكي في المهمة التي أطلق؟
يعاني اليسار المغربي من أشكالٍ من التشرذم قَلَّصَت من أهميته داخل المشهد السياسي، وأبرزت 
أن مختلف أحزابه لم تُنْجِز أي تفاعلٍ فعليٍّ بينها وبين تحوُّلات المجتمع والقيم في حاضرنا. صحيحٌ أن تياراته تختلف عن بعضها، إلا أن المتَابِع للاختلافات التي قامت، وما تزال قائمة بينها، يُدرِك أنه لا علاقة لها بطبيعة التحدّيات الفعلية التي تقف أمامها، التحديات التي تطرحها مرجعيتها، والأخرى المتعلقة بعلاقتها بالنظام السياسي السائد.
لا تشمل الحركية التي كنا بصدد تشخيص بعض أوجُهها، اليمين المحافظ (الإسلام السياسي) واليسار المشتّت، إنها تشمل أحزاب الإدارة التي أصبحت تقدّم نفسها أحزابا للوسط، وقد نجحت في ربح نوعٍ من التطبيع داخل المشهد الحزبي المغربي، حيث يوظفها النظام السياسي، كما توظفها الأحزاب الأخرى في ترميم أغلبياتٍ حكوميةٍ مناسبة لمراحل انتقالية، لم توصل بعد إلى عتبة الإصلاح الديمقراطي المأمول، وترسيخ آليات الانتقال الديمقراطي، وفي مقدمتها الدَّفْع بمزيدٍ من تحديث مجتمعنا، وتوقيف مسلسل التراجُع عن خيارات الحرّية والتقدم والتنمية.
C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".