خازوق البحرة في هولندا

20 أكتوبر 2019
+ الخط -
بعض الحكايات والطرائف التي يتداولها الناسُ فيما بينهم ليست مسلّية وحسب، بل إنها مشحونة بالمعاني والعبر.. على سبيل المثال، كتب محرّر صفحة "الرّقة أهلُنا" حكاية تُنقل هنا، مع شيءٍ من التَصَرُّف، جاء فيها أنه كان موجوداً في منظمةٍ لمساعدة اللاجئين في هولندا، وسمع صوت اللاجئ السوري أبي عبدو يلعلع في وجه المتطوّعة الهولندية، موبخاً إياها لأن راتب ابنه، عبدو، لم ينزل في حسابه المصرفي، إضافة إلى أن البلدية "السوسيال" لم تخصص له بيتاً أكبر من البيت الحالي، على الرغم من إتمامه معاملة تسجيل طفليه التوأمين، محمد وفطيم، أصولاً.. وحينما أعلمته المتطوّعة، بكثير من الكياسة، أن موضوع الرواتب ليس من اختصاصها، وأن عليه تقديم طلب لـ "السوسيال" بخصوص محمد وفطيم، ارتفع صوتُه أكثر، وراح يتساءل بحنق: أين العدالة؟ أين الحرية والديمقراطية في هذا البلد؟.. سأله راوي الحكاية، وقد لمح في يده إسورة مصنوعة من الخَرَز، حيكت عليها صورة العَلَم السوري، وفي قلبه صورة لبشار الأسد: حضرتك أين تعلمت العدالة والحرية والديمقراطية؟!
يبدو لكاتب هذه الأسطر أن سؤال المحرّر لأبي عبدو ليس في محله، ولا يحتاج جوابا، فكلاهما يعلم، ونحن كذلك نعلمُ أن المواطن الذي يراجع أي دائرة حكومية في سورية، حتى ولو كانت دائرة النفوس، لا يجرؤ على استنشاق كميةٍ من الهواء أكبر من التي تَسمح له السلطة الفاشية باستنشاقها، ولو تجرّأ، مثلما تجرّأ أبو عبدو في هولندا، وسأل أحد الموظفين (أين العدالة؟ أين الحرية والديمقراطية في هذا البلد؟) فسرعان ما يجبرونه على تمثيل دور البطولة في فيلم "مأساة مِمْسَحة"! وإذا كان واقفاً عند باب الفرن الآلي، ورأى كيف تأتي سياراتٌ عائدةٌ لجهاتٍ متسلّطة مختلفة، وينزل منها رجالٌ مدجّجون بالسلاح، ويأخذون ما يشاؤون من الخبز خارج إطار الدور، ومن دون أن يدفعوا ثمنه للبائع، فما عليه إلا أن يغضّ الطرف، ويبتلع أي كلامٍ يصل إلى حلقه.
في تمثيليةٍ قدمها الفنان ياسر العظمة قبل عقدين، يذوق المواطن "فاروق النَصْرة" الأمَرَّيْن في التحضير لمعاملة استخراج جواز سفر. وأخيراً، وبعد التي واللتيا، يصل الأمر إلى مرحلة توزيع الجوازات، فيتكوّم الناس أمام كوة التوزيع بلا ضوابط، يتدافعون، ويتدافشون، ورجال الشرطة يَهُشُّونهم بالعصيّ، إلى أن يخرج الموظف، ويبدأ بالتوزيع، وعندما يأتي دور فاروق النصرة يصرخ: خازوق البَحْرَة! ويقذف له الجواز في الهواء بازدراء.
لو ألحَّ المحرّر في السؤال، فإن بإمكان أبي العبد أن يجيبه، ببساطة، قائلاً: يا أخي أنا أسأل عن العدالة والحرّية والديمقراطية في هولندا، وليس في سورية، والإنسان، يا صاحبي، لديه "ترمومتر" خاص يجعله يطالب بحقوقه، عندما يعرف أن ثمّة مَنْ يصغي إليه ويهتم به، ويخرس ويتنازل عن حقوقه، وحتى عن مواطنيته، عندما يضطر لذلك. أما وضع إسورة الخرز الموشّاة بصورة بشار الأسد في معصمي فهذا أمر يخصّني، ولا علاقة لك ولأمثالك به.. وطالما أن هنالك دولاً تقبل اللاجئين السوريين، بغض النظر عن كونهم ثائرين مطالبين بالحرية منكوبين مُطَارَدين، مثلك، أو مؤيدين، مثلي، يتمنون أن يبيد ابنُ حافظ الأسد ثلاثةَ أرباع الشعب السوري ويبقى رئيساً على سورية إلى الأبد، ويورثها لابنه الذي تتهمونه، أنتم المعارضون، بأنه لا يفهم بالحساب والرياضيات. ومن حقي أن أؤجر منزلي في سورية لأحد النازحين، وآتي إلى هنا، وأطلب اللجوء. وبذلك أكون قد حققت منفعة مزدوجة، أتخلص من الخدمتين، العسكرية والاحتياطية، وأتنعم بالحرية والديمقراطية المتوفرة في هذا البلد المعطاء. وفي كل رأس شهر يرسل إلي "Job center" راتبي ورواتب أم عبدو وعبدو ومحمد وفطيم كاملاً، فإن تأخروا أفتح باجوقي عليهم وأردح لهم، وهم يكلمونني بلباقة، مثلما فعلت المتطوّعة الشقراء قبل قليل.
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...