حرب اللغات في المغرب

01 أكتوبر 2018
+ الخط -
عادت الإشكالية اللغوية في المغرب إلى واجهة النقاش العمومي، بعد إدراج وزارة التربية الوطنية مفرداتٍ من العامية المغربية في بعض مقرّرات التعليم الابتدائي. يطرح قرار الوزارة أسئلة كثيرة، من حيث توقيته السياسي، في ضوء ميزان القوى الذي أفرزته مرحلة ما بعد 2011، وبروز الإسلاميين رقما أساسيا في المشهد الحزبي والسياسي، ومن حيث تعارضه مع المقتضيات الدستورية أن العربية هي اللغة الرسمية للبلاد إلى جانب الأمازيغية، هذا من دون إغفال الإشارة إلى افتقاد هذا القرار المريب السند المعرفي والعلمي، وعدم استيعابه الأبعاد اللسانية والفكرية والثقافية والسياسية التي تحكم قضايا اللغة والهوية في اشتباكاتها متعدّدة الأوجه والمضامين، سيما في بلد مثل المغرب، كانت فيه الإشكالية اللغوية جزءا من التدافع الاجتماعي والسياسي في أحيان كثيرة.
يستدعي قرار الوزارة أزمة منظومة التربية والتكوين المغربية بكل أعطابها المعروفة، وهي أزمة تعود أسبابها إلى غياب رؤية واضحة لتدبير المشهد اللغوي داخل هذه المنظومة، الشيء الذي يؤثر، بطبيعة الحال، على مردودية التعليم وجودته. ولذلك بدا للذين يقفون خلف هذا القرار أن إدراج العامية في مقرّرات الدراسة سيساهم في تجاوز هذا الوضع، ويفتح المجال أمام إصلاح هذه المنظومة، في ضوء ''عجز'' اللغة العربية عن القيام بذلك.
يتعلق الأمر بخطوةٍ غير محسوبة، فمن شأن إدراج مفرداتٍ من العامية في التعليم الابتدائي، المفترض أنه الأساس المتين لما يليه من مراحل تعليمية، أن يُشوّش على ذهنية المتعلم، ويؤثر في قدرته على استيعاب مختلف المعارف والمهارات، لا سيما التي تتعلق بالقراءة والكتابة والفهم والتعبير والتواصل.

يستند دعاةُ إدراج العاميّة في مناهج الدراسة ومقرراتها إلى أنها اللغة الأم لقطاع واسع من المغاربة، بيد أن الواقع ينبئنا إنه ليست هناك عامية واحدة في المغرب، بل عاميات جهوية تتوزّع على الخريطة الجغرافية للمغرب، بما تعكسه من تنوع تاريخي وثقافي ولغوي. وحتى إذا افترضنا أن هناك عامية واحدة، فهذا يحتاج للمراجعة والتدقيق، فقد أصبحت هذه العامية أحد العناوين البارزة لحالة التخبّط اللغوي التي يعيشها المغاربة، بسبب محاصرة اللغة الفرنسية لها في التداول اليومي، فيندر أن تسمع جملة أو عبارة بالعامية من دون إقحام كلمات وتعابير فرنسية، وهو أمر بالغ الدلالة في بلد تشكل فيه اللغة والثقافة الفرنسيتان سلطة سياسية واجتماعية ورمزية.
ينطوي القول إن العامية هي اللغة الأم في المغرب على تدليس بيّن، وجهلٍ بخريطة الواقع اللغوي، فهذه العامية تظل بحاجة لتقعيد صوتي ونحوي وصرفي، يضفي عليها الحد الأدنى من المعيارية، وبالتالي يمكّنها من حيازة شرط وجودها الثقافي، ويتجاوز وظيفتها التواصلية المحدودة في المعاملات اليومية.
محاولةُ إقحام العامية بهذه الطريقة المريبة في منظومة التربية والتكوين ليس إلا خلطا للأوراق، يصبّ أولا وأخيرا في مصلحة اللوبي الفرنكوفوني في المغرب، من خلال تمكين أذرعه الاقتصادية والسياسية والإعلامية والثقافية من كل مقوّمات القوة والنفوذ، في مقابل إقصاء العربية والأمازيغية وتضييق الخناق عليهما بشتّى الطرق.
لا يخدم الدفع بالعامية إلى قلب النقاش العمومي، في الواقع، إلا هذا اللوبي بجعل المشهد اللغوي في المغرب يبدو وكأنه نزال لغوي وثقافي بين العربية من جهة والأمازيغية والعامية من جهة أخرى، هذا في الوقت الذي تتغلغل فيه الفرنسية أكثر في الفضاء العمومي بمحاصرتها العامية نفسها بجعل الفرنسية جزءا من بنية الجملة وتركيبتها فيها. وهنا تلعب بعض القوى الاجتماعية دورا دالا في هذه العملية، خصوصا في قطاع الإعلانات الذي يمثل أحد المواقع المؤثرة في خلط الأوراق هذا، حيث نجد، في أحيان كثيرة، نزوعا بيِّنا نحو الجمع الممنهج بين العامية والفرنسية في ما تقدمه الإعلانات من مواد موجّهة إلى المستهلك المغربي، الشيء الذي يُفسد ذوقه اللغوي والثقافي، بل أكثر من ذلك يساهم في تشويه العامية نفسها التي يُزايد بعضهم بالدفاع عنها وحمايتها.
من هنا، لا يمتلك الداعون إلى تدريس العامية وفتح أبواب المدارس أمامها رؤية علمية (وبيداغوجية) متكاملة، تستوعب هذا المشهد، وتعيد إنتاجه بشكل ديمقراطي، يتحقّق معه السلم اللغوي الذي ينبني على تعايش اللغات وتفاعلها، بما يغني الثقافة المغربية بمختلف روافدها.
لا أحد يجادل في أن العربية بحاجة لثورة ثقافية كبرى، تضعها في قلب مستجدات العصر، بنزع هالة القداسة عليها، وفتح الطريق أمامها للاشتباك بالمتغيرات المعرفية والثقافية والاجتماعية الحاصلة في العالم، في أفقٍ يضمن لها تطوير ما تنتجه من أنماط الوعي والفكر والمعرفة والثقافة، والاستفادةَ مما راكمته العلوم الإنسانية في هذا الصدد. الشيء نفسه بالنسبة للأمازيغية التي تحتاج، قبل كل شيء، تنزيلا فعليا للمقتضيات الدستورية ذات الصلة، بما يعزّز المكاسب اللغوية والثقافية التي حققتها طوال العقود الثلاثة المنصرمة.
يعيش المغرب حرباً لغوية تتّسع رقعتها يوما بعد يوم. وسيشكل عدم إدارة هذه الحرب بطريقة متوازنة مأزقا حقيقيا بالنسبة للسلطة والنخب والمجتمع على المدى البعيد. لذلك يبدو ضروريا وضع استراتيجية لغوية متكاملة وواضحة، تَصْدر عن توافق مجتمعي واسع، بما يساهم في حل الإشكالية اللغوية المغربية بدون تكلفة كبيرة، وبعيدا عن أي تسخير إيديولوجي أو سياسي أو اقتصادي لها.