كولومبيا.. أي مستقبل للمصالحة الوطنية؟

14 اغسطس 2018

(للفنان الكولومبي رفاييل غوميز باروس)

+ الخط -
تبدو كولومبيا كأنها عينة لما تشهده بلدان أميركا اللاتينية من متغيرات دالة، فاتفاق السلام الذي وقعته الحكومة مع حركة القوات المسلحة الثورية الكولومبية (فارك) قبل عامين لم يتحول بعدُ إلى قوة دفع داخلية لبناء المصالحة الوطنية، وفتح أفق حقيقي لتغيير اقتصادي واجتماعي وسياسي، يتطلع إليه الكولومبيون، بمختلف مكوناتهم.
طوال إقامتي في مدينة مديين (أقصى شمال الأنديز الكولومبي)، لم تتوقف التعليقات عن الاغتيالات الدالة التي تنفذّها، منذ فترة، ما تعرف بالمليشيات شبه العسكرية اليمينية في حق عدد من نشاط اليسار وزعماء قبائل الهنود الحمر في مناطق مختلفة. موجة الاغتيالات هاته، كما يرى كثيرون هناك، لا تقف عند دلالاتها السياسية المباشرة، بل تحيل على أزمة عميقة ومركّبة تتخبط فيها الدولة والمجتمع الكولومبيان، فبقدر ما شكَّل اتفاق السلام طورا جديدا في حياة الكولومبيين، بعد عقود من الاحتراب الأهلي المدمر، أثار ذلك مخاوف من رد فعل اليمين التقليدي الذي يمتلك الأرض والثروة، وينتظم في شبكة مصالح اقتصادية دولية كبرى، تحت رعاية الولايات المتحدة.
معظم الكولومبيين لا يخامرهم الشك في أن هذا اليمين يقف خلف هذه الاغتيالات، منقادا خلف مخاوفه من أن يَسحب مسلسلُ المصالحة الوطنية البساط من تحت أقدامه، ويُفقده مصالحه الحيوية، خصوصا إذا ما تم حلُّ مشكلة النازحين الذين اضطرّتهم ظروف الحرب إلى مغادرة بيوتهم، والتخلي عن أراضيهم، فحلُّ هذه المشكلة سيفتح الباب أمام ظهور سيل من الحقائق التي قد تورّط شخصيات مدنية وعسكرية نافذة، ما قد يُقوّض، بحسب بعضهم، فرص تثبيت السلام في البلاد.
يُقدم متحف الذاكرة في مِديين صورة عن هذا التوتر متعدّد الأبعاد الذي تعرفه كولومبيا، فهو لا يحفل بما قد يحيل على ضراوة ما حدث في الحرب الأهلية، بكل آلامها ومآسيها. هناك حرص، لا تخطئه العين في ما هو معروض، على نوع من التوازن بين التذكّر والنسيان، فكأن الإفراط في التذكّر سيثير مخاوف أطراف مختلفة، لا يبدو في مصلحتها الكشف عما حدث من تجاوزاتٍ وانتهاكاتٍ، على امتداد سنوات الحرب. هناك صعوبات جمّة تعترض رغبة الكولومبيين في 
إعادة بناء ذاكرتهم وترميمها بأقل الخسائر الممكنة.
يرى الشاعر وعضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الكولومبي، فِرناندو ريندون، أن ما يقلق اليمينَ، في مختلف مواقعه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، هو هذا الصعودُ الهادئ لليسار. تبدّى ذلك، بشكلٍ لا يخلو من دلالة، في الانتخابات الرئاسية في يونيو/ حزيران الماضي، فعلى الرغم من فوز مرشح اليمين، إيفان دوكي، إلا أن حلول مرشّح اليسار، غوستافو بيطْرو، ثانيا شكل مفاجأة إلى حدٍّ ما، ولعل ذلك، ما يُفسر، بحسب ريندون، انبراء الإعلام التابع للمرشح الفائز لتضخيم علاقة مرشح اليسار بالزعيم الفنزويلي الراحل، هوغو تشافيز، وإظهارِ هذا اليسار كما لو أنه ذراعُ التشافيزية الممتدةُ في كولومبيا، وبالتالي تهديد للتوازنات الدقيقة التي ينهض عليها البناء الاجتماعي والسياسي.
ولا يُخفي كثيرون من أهل اليسار في كولومبيا أن الإرث التشافيزي بات عنصر استقطاب داخل المشهد السياسي، بسبب ما يقدّمه من موارد إيديولوجية وسياسية لهذا اليسار، بمختلف تنويعاته. ولذلك، فإن التوتر الذي يطبع علاقة البلدين يكاد لا ينفصل، بحسب كثيرين، عن هذا الإرث السياسي والنضالي والرمزي الذي خلفه الزعيم الفنزويلي في أميركا اللاتينية. وليس مصادفةً أن يتهم الرئيس الفنزويلي الحالي، نيكولاس مادورو، نظيره الكولومبي المنتهية ولايته، خوان مانويل سانتوس، بالوقوف خلف محاولة اغتياله أخيرا في كاراكاس، ما يعطي الانطباع بأن الأمر يتجاوز مجرد توتر حدودي عابر بين بلدين جارين.
من ناحية أخرى، يتطلع الكولومبيون إلى أن يُفرز اتفاق السلام نتائجه على أرض الواقع، بتعزيز المصالحة الوطنية، وحل مشكلة الآلاف من مقاتلي (فارك) بإدماجهم في المنظومة الاجتماعية والأهلية، وإقرارِ ديمقراطية حقيقية، تمهد لتعايشٍ ممكنٍ بين اليسار واليمين، وبناءِ دولة القانون، وإعادة توزيع الثروة، ومكافحة الفساد والرشوة اللذين يخترقان مفاصل حساسة داخل الدولة.
وتمثل الجريمة المنظّمة مشكلةً مزمنةً في كولومبيا، ليس فقط بسبب نتائجها على الاستقرار والسلم الاجتماعي والاقتصادي، بل لكونها تحولت إلى تابو سياسي. في مدينة مديين التي ارتبط اسمها ببابلو إسكوبار، أحد أشهر بارونات المخدّرات على الصعيد الدولي، يتخذ هذا التابو أبعادا أخرى، وهو ما يمكن ملاحظته بسهولة خلال التجوّل في حي إسكوبار الذي بناه الأخير لفائدة عدد كبير من فقراء المدينة ومعوزيها. تفاجئك صور البارون الراحل على الجدران، وكأنه أيقونة شعبية، يحتفي بها كثيرون، فيما يشبه رسالة سياسية إلى من يهمهم الأمر. لكن الانتقال إلى أحياء أخرى في المدينة، حيث تقطن فئات الطبقة الوسطى مثلا، يجعلك في مواجهة رواية أخرى لما عرف تاريخيا بكارتيل مِديين. فكثيرون يرون أن إسكوبار ليس مسؤولا فقط عن هيكلة الجريمة المنظمة في كولومبيا ومأسسة عملها، بل عن الإساءة إلى صورة المدينة (مديين) والبلد وتشويههما، بربطهما في المخيلة الشعبية العالمية بتجارة المخدرات وتسويقها، ما يمكن اعتباره جرحا ثقافيا مفتوحا.
مخاض سياسي واجتماعي كبير تعيشه كولومبيا، مع تطلّع شعبي لافت للقطع مع آلام الماضي، وبناء كيانية كولومبية جديدة، تقوّم المصالحة والتعايش الاجتماعي والأهلي.