غربان في ثياب العصافير

01 نوفمبر 2018
+ الخط -
(1)
سألته بعد أن أرسلتُ إليه خاطرةً ذكّرته بموضوع إنشاءٍ لطالب كسول في الصف السادس ابتدائي، دأب على مسح أنفه بطرف كمّه: ما رأيك في كتابتي؟
حار الفتى فيما يقول، وخشي إن صارحها بالدرك الذي وصلت إليه اللغة على يديها، أن تطير "العصفورة" من بين يديه، فهي تتمسّح به منذ فترة، آملةً أن يعلمها الكتابة، ويعينها على نشر "روايتها!" الأولى التي لم تكتبها بعد، كان يودّ أن يهمس في أذنيها بتدلّه: أجمل ما في كتابتك عيناك! لكنه خشي أن تُحسن فهمه، لا أن "تفهمه خطأ" فلا يعرف كيف يُصلح ما قد يخرّب من علاقة، أمل منها الكثير، وبنى عليها أحلاماً وافرة.
قال لها بعد طول تأمل، وقد ملأ الورقة التي كتبت عليها خاطرتها، بخطوطٍ كثيرةٍ تحت عدد وافر من الكلمات: بالنسبة لك، كمحاولة أولى لا بأس بها.
لم يعجبها الجواب، فمالت برأسها وقالت بنظرة عتب، شحنتها بكثير من الدلال: يعني ما في أمل؟
قال، تحت تأثير طاقةٍ تفجرت فجأة في داخله، وقد قرّر بحزمٍ أن يخون ضميره الأدبي، ويزلزل عظام الزمخشري في قبره: بالعكس، ما كتبتِه، يا عزيزتي، يبشّر بمولد قلم نسائي فاتن، تملأه الأنوثة الطاغية، يدير أعناق القراء، ويفجّر في أعماقهم ينابيع الشغف بالقراءة حتى آخر تنهيدة في خاطرتك.
انتعشت الصبية، وإن لم تفتها، بحس الأنثى، المعاني المختبئة ما بين السطور، فهي أيضاً تُشاطر أديبها بعض هواجسه البعيدة، وإن كانت ترغب بشدّة أن ترى اسمها منقوشاً على غلاف كتاب، شأن عشرات "المؤلفات" الصبايا، ففلانة وعلانة "مش أحسن منها"، وهي أجمل منهن جميعاً، وقادرة على أن تسبقهن في ميدان الأدب، وحتى قلة الأدب إن لزم الأمر، وتجمع أكثر بكثير مما جمعته كل منهن في حفل توقيع روايتها الأولى.
(2)
بعد مرور عدة أشهر..
أصبحت "الكاتبة" الشابة من نجوم "فيسبوك"، واستطاعت أن تجمع في غضون أشهر قليلة 
آلافاً من "الفولورز" ومثلهم من المعجبين، بل إنها ما تكاد تضع "البوست" على حائط صفحتها، حتى تنهال عليها "اللايكات"، وتبدأ التعليقات تترى هي الأخرى، من قبيل: أبدعت يا النشمية، وصح لسانك، ويسلموا هالأنامل. وشيئاً فشيئاً تحولت الكاتبة الهاوية إلى كاتبة "محترفة"، إذ حرصت، لزوم التسويق، على أن تضع مع كل "بوست" صورة مختارة لها، فيها "طعجة" خبيثة، تجتهد أن تكون لافتةً لنظر الذباب الذي يثيره منظر الحلوى، فيتقاطر عليها ليفوز بما يشبه "تذوّق" ولو شيئاً من "سكّرها" الموهوم.
(3)
ألم أقل لك إنك ستكونين كاتبة ذات شأن؟
قال لها، فقالت: كله بفضل "مساعدتك"، وغمزت بطرف عينها.
ضحك كثيراً، وضحكا معاً، ثم قال: متى موعد توقيع كتابك الثاني؟
قالت بخبث: حينما تنتهي من "تنقيح" بروفته الأولى، سأدفع به إلى الطباعة فوراً، وسنحدّد سوياً موعد التوقيع.
والآن، سأعترف لك بشيء، يا عزيزتي، قال، وقد أيقن أنها لن تسيء فهمه، الحقيقة أن أجمل ما في كتاباتك.. عيناك.
ضحكا معاً، وبدأ يكتب "تقريظاً" يليق بكتابها الثاني، كي يزيّن غلافه الأخير، إضافة إلى صورة لها، تنادي كل من يراها إلى قراءة "إبداعها" بشغف.
(4)
وهكذا امتلأ فضاء "الإبداع" بأسراب من العصافير الجميلة التي جنح معظمها إلى كتابة "دواوين" شعر، وروايات، وخواطر، لا تمت في أصلها لأي نوعٍ أدبيٍّ معترفٍ به، إلا أن "شغف" القارئ الأول أحال مادّتها الأولية إلى ما يمكن أن يسمى أدباً على نحو أو آخر، في مقابل خدماتٍ عاطفيةٍ مدفوعة عاجلاً، أو آجلاً، وهو نوعٌ مستحدثٌ من الفساد الذي شاع في حياتنا، وتحول إلى قاتلٍ محترف، يقتل في أول شتوة، فيغرق إحدى وعشرين زهرة في بلدٍ غالبية مساحته صحراء، تماماً كما يقتل أحلام الشباب فيبدو الخلاص في الطيران بعيداً عن الوطن، والبحث عن وطن آخر.
إنها حالةٌ فريدة من الانهيار والتفكّك والتشظي لكل شيء، تنذر بالأسوأ الذي بدأت طلائعه تطل علينا، ليس في الأردن فحسب، بل في كل صقعٍ يثغو بحرف الضاد.
هي تبدو كالعصافير في شكلها، لكنها غربانٌ متنكرةٌ في زي عصافير، لا تتقن الشدو، بل ترفع عقيرتها بالنعيق المُؤذن بالخراب.