الشوفينية الوطنية عربياً

الشوفينية الوطنية عربياً

26 يناير 2018
+ الخط -
كان تشكل الدولة القُطْرِيَّةِ، أو الوطنية العربية بعد انهيار الدولة العثمانية مطلع القرن الماضي، ثمَّ بدء انحسار الاستعمار الأوروبي المباشر في منتصفه، إيذانا بانهيار مفهوم الأمة الجامعة، أو الهوية العربية، الذي نَظَّرَ له مفكرون عرب كثيرون منذ القرن الثامن عشر، وَتَصاعَدَ هذا التوجه في القرن التاسع عشر، وصولا إلى تقهقر الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، ثم انهيارها كليا بعد ذلك بسنوات قليلة. ولم يشفع لعربٍ كثيرين تحالفهم مع بعض الدول الأوروبية الاستعمارية حينها، وفي مقدمتها بريطانيا، في نيل ما وعدوا به من دولةٍ عربية في المشرق العربي، أو الجزء الآسيوي عربيا، مع استثناءاتٍ متفق عليها، كما جاء في مراسلات الشريف حسين مع المندوب السامي البريطاني في مصر، هنري مكماهون، بين عامي 1915-1916. المفارقة هنا أن بريطانيا التي كانت تفاوض العرب، وتغريهم بالثورة على الدولة العثمانية، كانت تجري مفاوضات، في الوقت نفسه، مع فرنسا لتقاسم الهلال الخصيب، والذي يشمل العراق وسورية والأردن وفلسطين ولبنان، وانتهت تلك المفاوضات إلى اتفاقية سايكس - بيكو عام 1916. ثمَّ لحقها وعد بلفور، عام 1917، طعنة غدر أخرى، والذي وعدت بريطانيا بموجبه الحركة الصهيونية بإنشاء "وطن قومي لليهود في فلسطين"، لتنهار بذلك، كلياً، أحلام بعض العرب بإنشاء دولة عربية كبرى، تكون نواة هوية جامعة.
بقية القصة معروفة بعد ذلك من وقوع الوطن العربي تحت نير الاستعمار الأوروبي عقودا
 مقبلة، استمر بعضها حتى منتصف سبعينيات القرن الماضي، غير أن نواة الدولة القُطْرِيَّةِ العربية كانت قد أخذت بالتشكل في أحشاء الاستعمار قبل ذلك بعقود، بدءا من عشرينيات القرن الماضي، واستمرت بالتطور حتى نيل الاستقلال العلني. وعلى الرغم من الواقع المرير الذي وجد العرب أنفسهم قبالته، من انقسام وتشرذم وضعف، إلا أن حلم "الوحدة العربية" بقي يداعب مخيالهم، خصوصا أن الدولة القُطْرِيَّةَ، أو الوطنية، لم تحقق آمالهم، مفكرين وشعوبا. بل حتى بعض السياسيين والعسكريين عاشوا الحلم نفسه. ولا شك أن الهزائم المذلة للعرب أمام إسرائيل كان لها وقعها الكارثي عليهم، ومع ذلك لم تنجح أي محاولة لتوحيدهم، كما في حال "الجمهورية العربية المتحدة"، 1958-1961، بين مصر وسورية، وانتهينا بدول فاشلة على كل الصعد، بما في ذلك، اقتصاديا وعسكريا وسياسيا. الأقسى أن الدولة القُطْرِيَّةَ العربية لم تجسد حتى أحلام الحرية والديمقراطية، حيث إنها تحولت إلى دول تحكمها أنظمة ديكتاتورية قمعية تَسَلُّطِيَةٍ فاسدة، نهبت البلاد والعباد، وقدمت أسوأ نماذج لمفهوم الدولة في القرن العشرين، ولا زالت كذلك في القرن الواحد والعشرين. وما انهيار الدولة القُطْرِيَّةِ اليوم، وَتَفَسُّخِ عراها في السنوات الماضية، إلا حصاد ما زرعناه واستثمرنا فيه منذ أكثر من قرن.
في الحديث عن الدولة القُطْرِيَّةِ، أو الوطنية العربية، وقبل القيام بعملية إسقاط معاصر، لا بد من من تذكّر أن تلك الدولة، وعلى الرغم من فشلها على كل الصعد، وغياب أي حافز للفخر بالانتماء لها، استصحبت مفهوما شوفينيا للوطنية ورعته. إنه مفهوم التعصب والمغالاة والإفراط في التباهي بالانتماء لها على حساب الأمة الجامعة بهويتها العربية، أو الإسلامية. لا فرق هنا، على الأقل من حيث الافتراض الفلسفي للنقاش. لقد تماهى مفهوم "الوطنية" عربيا مع الشوفينية والنازية من حيث التعصب والمغالاة، بل إن دولا قُطْرِيَّةً عربية أعادت صياغة خرافة "الجنس الآري"، وعملت على تكييفه ليستوعب جنسيات حكامها، وتلبيسها مفهوم الهوية الوطنية العُصْبَوَيَّةِ، وتقديمها جنسيات وهويات سائدة عربيا. ومن المهم هنا ملاحظة أن هذه المقاربة الشوفينية للوطنية لم تعن قط، في فهم الأنظمة الحاكمة، أن شعوبها تتمتع بحقوق ومميزات خاصة، بل إنها بقيت ضحية للقمع والنهب مع بعض الأعطيات مِنَنا، لا حقوقا. كل ما أرادته تلك الأنظمة من الشوفينية الوطنية تعبئة شعوبها ضد الآخرين من العرب، فالأمر لا يتعدى إيديولوجيا تخديرا بشبق الانتماء لهوية فرعية "خاصة"، وبذلك تنجو الأنظمة الحاكمة بجرائمها ومغانمها.
ولكن، وكما ثبت أخيرا، وتحديدا خلال الثورات العربية مطلع عام 2011 وبعدها، فإن تلك المعادلة غير قابلة للاستمرار. ومن ثمَّ فإننا نشهد اليوم انهيارا لصيغة الدولة القُطْرِيَّةِ أو الوطنية، وإحياء للهويات الفرعية، إثنيا وجهويا وطائفيا ومذهبيا. تتداعى أركان الدولة الوطنية اليوم تحت وطأة الفشل المتراكم عقودا طويلة، فضلا عن الممارسات الرعناء لبعض الأنظمة العربية. ومع ذلك، يحار المراقب وهو يشاهد انهيار بنى المنطقة واحدة تلو أخرى.. يحار أن أحدا لا يستطيع أن يتحدث في صيغة بديلة نحتاج إليها، قبل أن تحل الكارثة بنا جميعا نحن 
العرب. من يتحدث عن صيغة وحدوية عربية، بغض النظر عن شكلها أو إطارها، سيجد نفسه عرضةً للتسفيه والتشكيك اليوم. الأدهى أن بعض العُصَبِ الحاكمة تبنت مقاربة جديدة للوطنية، إنها مقاربة تقوم على ولاء شوفيني لشخص الحاكم، لا للحزب، كما كان الحال في سورية، ولا للأسرة، كما كان عليه الحال في السعودية، ولا للمؤسسة العسكرية، كما كان الحال في مصر. إنه ولاء للفرد الحاكم بشخصه فحسب. لذلك كله، فإن استقراء مسار الأحداث في القرن الأخير يبين لنا أننا على أبواب زلازل أخرى، لا قدر الله، أكبر مما شهدناه حتى اليوم. لقد عاد الاستعمار الأجنبي المباشر إلى بلادنا، كما في سورية والعراق، وحديث إعادة رسم خريطة المنطقة يتصاعد، لكن الأخطر قد يكون في انتحارنا ذاتيا باعتبارنا عربا، بغض النظر عن الصيغة أو الكيفية الآن. وعلى الرغم من ذلك كله، فإن ثالثة الأثافي أن في العرب من لا يزال يقارب "الوطنية" بعبادة الحاكم، خصوصا ممن ثبت فساده وخيانته، أو بالتماهي مع شوفينية فهمه لها، على حساب الوطن نفسه، قبل أن يكون على حساب الأمة التي يخوض بعضهم معارك ضد بعض مكوناتها باسم "الولاء للوطن"! بدون تحرير مفهوم الوطنية من الشوفينية، لن تبقى لنا أوطان نفاخر ونباهي بها. ولكن هل ثَمّةَ من يفهم؟ إنك ستجد من يوافق هذا المقال ويبدي إعجابه به، في حين أنه ضحية تلك الشوفينية، أو ربما أحد حراس معبدها المُدَنَّسِ.