علبة الكبريت

علبة الكبريت

28 يونيو 2017
+ الخط -
هو ذا اللقب الذي أطلقه الرئيس المصري المخلوع، حسني مبارك، على قناة الجزيرة يوم زار مقرّها في الدوحة، تعبيراً منه على الحرائق التي يتخيلها عقله العسكري مشتعلةً في كل قطعة من بلاد العرب، جرّاء جرأة "الجزيرة" وانفتاحها.
قال دبلوماسي أميركي مخضرم عنها قبل سنوات "إنها العملية السياسية الوحيدة الجارية في شرق أوسط جامد". قناة الأخبار التي وضعت العالم العربي أمام حقيقته، صار رأسها مطلوباً اليوم من دول الحصار العربي (السعودية والإمارات والبحرين ومصر)، لأنهم يَرَوْن فيها إبرة توخز العقل السياسي والأمني في منطقةٍ مشلولةٍ، وترفض أنظمتها أن تعترف بحقيقة إعاقتها، على الرغم من أن السعودية والإمارات استثمرت، في العشرين سنة الماضية، في الإعلام ما لم تستثمره قطر وغير قطر، إلا أن المال وحده لا يصنع التأثير، والرعاية لا تخلق المصداقية، والتلفزيون روحٌ قبل أن يكون شاشة وقمراً اصطناعياً وتقنية وألواناً.
رأس قناة الجزيرة هو البند السادس على قائمة المطالب التي قدّمها محور الحصار مقابل (العفو) عن قطر، وإعادة إدماجها في حظيرة مجلس التعاون الخليجي، بلا أظافر ولا أنياب ولا سيادة. ولسان حال الرياض وأبوظبي والمنامة يقول: إذا لم تقدر على صنع تلفزيون قوي، وله تأثير، فهناك حل سهل، أوقفْ تلفزيون جارك، واقطع عنه الماء والحليب والخبز، واقفل الجو والبحر والبر أمامه، وهدّده باستعمال القوة. هذه أقصر طريقة لربح حرب الفضائيات المنتشرة كالرز في حقول الصين.
لي ملاحظات على أداء قناة الجزيرة، وعن خلطها أحياناً بين الخبر والرأي، والحدث وما يجب أن يحدث، لكن هذا لا يعني موافقةً على إقفالها، وقتل تجربتها. نجحت "الجزيرة" في ترك بصماتٍ قوية على أداء الإعلام العربي الذي راح يقلدها عن حب أو عن كره، محاولاً رفع هامش الحرية الذي كان قبل ظهورها ضيقاً لا يدخل منه إلا الحاكم وبطانته، ومن يرضى عنه ولي الأمر.
لم يسبق لدولةٍ في العصر الحديث أن طالبت دولة أخرى بإغلاق قناة تلفزيونية لا تعجبها، ولم يسبق أن فرضت دول لم تخض حرباً على دولة أخرى شروط استسلامٍ مذلة، كما فعلت السعودية والإمارات والبحرين مع قطر، في محاولةٍ لإعادة تعريف سيادة الدول، انطلاقاً من مساحتها الجغرافية وتعداد سكانها...لهذا، فوجئ العالم من "لائحة العار" التي قدمتها دول الحصار إلى الوسيط الكويتي لتسليمها إلى الدوحة، وتطالب بإعلان قطر دولة منزوعة السيادة، فإلى ماذا يرجع هذا الحمق العربي الجديد؟
أولاً: تدل لائحة البنود 13 على أن السعودية والإمارات والبحرين ومصر تخاف حد الرعب من "ثورات الربيع الديمقراطي" إلى درجةٍ لا يتحملون فيها وجود قناة وصحيفة وموقع إلكتروني، ودولة صغيرة تؤيد حق الشعوب العربية في أن تختار مصيرها، حتى وإن كانت هذه الدولة لا تعطي النموذج المثال، وهذا يدل على فشل الثورة المضادة التي موّلها البيت الخليجي.
ثانياً: تدل لائحة "بنود الاستسلام بدون حرب" التي أرسلها الأخ الأكبر في الخليج إلى جاره الصغير أنه يشعر بالفشل في السباق نحو "القوة الناعمة"، كما صاغ مفهومها جوزيف ناي من جامعة هارفارد لوصف القدرة على كسب التأثير والنفوذ بوسائل غير تقليدية، ليس بينها استعمال القوة العسكرية، مثل الإعلام، والدبلوماسية، واللوبيات ومراكز التفكير، والاستثمار في الرياضة، وفي البحث العلمي وفي الاقتصاد الجديد... تشعر السعودية، على الرغم من إمكاناتها المالية الهائلة، أنها تخسر في هذه المعركة.
ثالثاً: أصبحت السعودية تنعت في الأوساط الدبلوماسية الغربية بدولة الحسابات الخاطئة، حيث منيت دبلوماسيتها بخسائر فادحةٍ ومتتالية. في العراق، لم تعرف كيف تستفيد من سقوط حكم "البعث" بيد جورج بوش الابن، فكانت النتيجة أن أعطي العراق على طبقٍ من ذهب إلى إيران. في سورية، لم تفلح فلول الجماعات المسلحة التي جندتها الرياض في إسقاط نظام الأسد الذي وجد الفرصة لاستدعاء إيران وروسيا لقيادة ثاني بلد عربي يسقط في يد ملالي طهران. في اليمن، توهمت القيادة السعودية أن الحرب هناك ستكون نزهة ربيع قصيرة، وها هي تدخل سنتها الثالثة بدون حل في الأفق، حيث كان تأثير إيران على الحوثيين صغيراً جداً، وأصبح كبيراً إلى حد أنه لا سلام ولا حرب في صنعاء بدون قرار من طهران.
A0A366A1-882C-4079-9BED-8224F52CAE91
توفيق بوعشرين

كاتب وصحفي مغربي، رئيس تحرير جريدة "أخبار اليوم" المغربية.