عندما تنحني أعناق الرجال

عندما تنحني أعناق الرجال

22 فبراير 2017
+ الخط -
السياسة لعبة لا تتسم غالبا بالإستقامة، بل يغلب عليها الإعوجاج وعدم التمترس وراء مبادئ وقيم، قد تقف عائقاً أمام اقتناص الفرصة واغتنام المصلحة والانقضاض على الهدف والغاية غير ملتفتة للوسيلة، هل هي دنيئة أم شريفة؟
لذلك، لم يكن غريباً ولا شاذّاً أن تتباين مواقف السياسي الواحد، بحيث يبدو وكأنه شخص آخر غير الذي عرفناه وخبرناه، ودعونا نترك هذا الطرح العام، ونرى أمثلة لسلوك مشاهير الساسة، وكيف أنّها تختلف جذرياً حسب المصلحة، غير مكبّلة بقواعد الإلتزام بقناعات ومواقف سالفة .
فها هو الرئيس المصري الراحل أنور السادات بعد رفضه القديم التفاوض مع المحتل الإنجليزي وقولته الثائرة: لا يمكن التفاوض مع محتل إطلاقاً، واشتراكه في اغتيال أمين باشا عثمان صديق الإنجليز المقرّب، تراه بعد أن وصل إلى سدة الحكم، يفاوض المحتل الإسرائيلي، ويردّد في مفاوضاته "مداعباً": عزيزتي جولدا أو سيدتي مائير.
وها هو مصطفى باشا النحاس بعد عدائه وجهاده ضد الاحتلال الإنجليزي، وخطبه الثورية الناضحة بكراهية المحتل، تراه يقبل تشكيل حكومته على أسنة رماح ودبابات الإنجليز في فبراير/ شباط عام 1942، ضارباً باستقلال مصر عرض الحائط غير عابئ بتاريخه النضالي الطويل ومواقفه الوطنية السابقة. وفي الأزمة نفسها، تجد كذلك الملك السابق فاروق الأول بعد أن ارتدى قناع الأسد الهصور، رافضاً عجرفة حزب الوفد وتدخلات المندوب السامي البريطاني المهينة، تراه يتراجع ويبدو كفأر مذعور وقد تخلّى عن كرامة الرجال، قبل كرامة الملوك.
ويصدمنا الزعيم جمال عبد الناصر بعد ما كان منه من ممانعة ومناوئة للهيمنة الأميركية سياسياً واقتصادياً، فتراه في يناير/ كانون الثاني 1970 يوقع اتفاقية الجات، ويتهيّأ للإنفتاح الاقتصادي ويقبل مبادرة روجرز، أي أنّ بداية التوجه للغرب واختيار التهدئة والدوران في فلك الولايات المتحدة، كانت له إرهاصاته المبكرة في نهاية عهد عبد الناصر وليس السادات.
وهاهو الرئيس المتنحي حسني مبارك الذي لم يكن ينتوي الترّشح، يكتشف فجأة أنّ منصب نائب رئيس الجمهورية شاغر ثلاثة عقود ويستلزم من يشغله.
الأمثلة لا تنتهي، وكلها مسكونة بتبدّل المواقف وتغيّر السلوك والإنتقال من النقيض إلى النقيض، وهي إن دلت على شيء، فإنّما تدل على إنحناءة الرأس، لتجاوز المِحنة أو نيل المبتغى وقضم الكعكة، وهي تشي أيضاً بالإنبطاح، حتى تمرّ الرياح وتتحسن الأحوال وتبتسم الحظوظ، لكن الأمر، في النهاية، يقطع بخلع سروال الرجولة ولباس الكرامة، فما أصعب التخلّي عن السروال واللباس في هذا الشتاء قارس البرودة، لاعتقادنا الراسخ أنّه لا شيء يستحق أن تنحني من أجله أعناق الرجال.
D5C2955D-3637-43C9-BD92-DB9A172AFFDE
D5C2955D-3637-43C9-BD92-DB9A172AFFDE
طارق البرديسي (مصر)
طارق البرديسي (مصر)