انتخابات كتالونيا.. تكريس الانقسام

انتخابات كتالونيا.. تكريس الانقسام

29 ديسمبر 2017

حزب ثيودادانوس وأنصاره يحتفلون في برشلونة بالفوز الانتخابي (21/12/20017/Getty)

+ الخط -
لم تزد الانتخابات التشريعية في إقليم كتالونيا يوم 21 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، المشهدَ الإسباني إلا تعقيدا، بعد أن فازت الأحزاب الانفصالية الثلاثة (معا من أجل كتالونيا، اليسار الجمهوري الكتالوني، الوحدة الشعبية) بأغلبية مقاعد برلمان الإقليم. وعلى الرغم من أهمية هذا الفوز بالنسبة لمشروع الاستقلال الكتالوني، إلا أنه يجب أن يُقرأ أولا في ضوء النتائج التي حصلت عليها الأحزاب الأخرى المعارضة للانفصال، وثانيا في ضوء لامبالاة أبداها المجتمع الدولي حيال هذه الانتخابات، خصوصا في ما يتعلق بالاتحاد الأوروبي، ما يعني، في المحصلة، أن الاقتراع الحالي لم يأت بجديد سوى أنه عَمّق أكثر الانقسام الذي يعرفه الإقليم بشأن مستقبل العلاقة مع الحكومة الإسبانية.
وفي وقتٍ كان يَنتظر فيه الانفصاليون فوزا ساحقا، جاءت النتائج مخيبةً لآمالهم على المدى الاستراتيجي البعيد. صحيح أنهم حازوا الأغلية المطلقة بفوزهم بـ 70 مقعدا، وحصولهم على 47,5% من الأصوات، لكن ذلك لا يبدو أنه يفتح أفقا أمام مشروعهم السياسي لاعتبارات كثيرة، أبرزها نجاح الحكومة الإسبانية، نسبيا، في استثمار واجهات الإعلام والاقتصاد والرأي العام والدبلوماسية، طوال الشهرين المنصرمين، بغاية إحداث نوع من التوازن داخل الإقليم، وهو ما أفرز، في النهاية، معسكرين يتقاربان في قوتهما وامتدادهما داخل الشارع الكتالوني.
واستطاعت الأحزاب المعارضة لانفصال الإقليم أن تحرز تقدما ملموسا بحصولها على 43,5 % من الأصوات (مقابل 39,5% عام 2015!) و57 مقعدا. وكان لافتا للغاية تصدرُ حزب ثيودادانوس (يسار الوسط) نتائج هذه الانتخابات، بحصوله على 37 مقعدا، واستطاع أن يحل، في المقدمة، في مدينتي برشلونة وطَرّاغونا، بما لذلك من دلالاتٍ لا يمكن القفز عليها.
ونجح، إلى حد ما، في اختراق كتلةٍ ناخبةٍ حضريةٍ، متنوعة المشارب الفكرية والسياسية والسوسيولوجية، ما يجعله قادرا على التحول، في مقبل الأيام، إلى رقم أساسي في المعادلة الانتخابية والسياسية الإسبانية، خصوصا في ظل تراجع الحزبين التقليديين الشعبي، والاشتراكي العمالي.
ويمكن تفسير صعود حزب ثيودادانوس داخل المشهد الحزبي والسياسي الكتالوني بوجود خيار ثالث في طور التشكل في الإقليم؛ ينبني على توسل منطقة وسطى بين خطاب الحكومة الإسبانية العاجز عن الخروج عن مركزيته المفرطة، وثقافته السياسية التقليدية ذات الجذور الفرنكوية، وخطاب الانفصاليين الكتالان الذي لم يَقرأ جيدا السياق الإقليمي والدولي للأزمة الكتالونية. إنه خيارٌ ينطلق، حسب ما يرى بعضهم، من الانخراط الجاد في بناء مشروع مجتمعي جديد، لا يتألف من أقاليم مستقلة، بقدر ما يتألف من مواطنين، قادرين على اجتراح وصفة لتعايش منتج وخلاق بين هويتهم المحلية والإقليمية، وهويتهم الوطنية الإسبانية الجامعة.
وكشف الاقتراع واجهات أخرى للصراع بين مدريد وبرشلونة. فعلى سبيل المثال، لم تراهن الأحزاب الانفصالية، بشكل كبير، على القيادات الحزبية المعروفة في ترشيحاتها، بقدر ما راهنت على وجوهٍ وكفاءاتٍ تنتمي للعمل المدني، وقريبة من الانشغالات اليومية والاجتماعية للكتلة الناخبة، وبالتالي، قادرة على تجسيد حلم الاستقلال في الواقع. يعني ذلك، بلغة السياسة، توسيع دائرة المواجهة في اتجاه مختلف حلقات المجتمع ودوائره المختلفة، وعدم الاقتصار على النخب الحزبية والإدارية.
ولعل ذلك ما يفسر وجود مخاوف عميقة ودالة داخل اليمين الإسباني التقليدي، والقوى الاجتماعية والاقتصادية المرتبطة به، من أن تؤدي سيرورة الأحداث في كتالونيا، واتساع رقعة النقاش العمومي إلى طرح بدائل مغايرة، تخص إعادة إنتاج الحقل السياسي، بما يؤدي إلى وقفة مجتمعية كبرى، للنظر في حصيلة أربعين عاما من الديمقراطية وتداول اليمين واليسار على السلطة. وبالتالي فتح المجال أمام نظام سياسي جديد، ينبني على توافقات تخص علاقة الدولة بالأقاليم، ومستقبل الملكية، وتجديد هياكل الديمقراطية الإسبانية، وفتح قضايا حساسة وشائكة تخص الذاكرة وإرث الحرب الأهلية (1936- 1939).
كَرّسَ الاستحقاق الانتخابي أخيرا حالةَ الاستقطاب السياسي والمجتمعي الحاد التي يعيشها الإقليم منذ استفتاء فاتح أكتوبر/ تشرين الأول، ويزداد الأمر صعوبةً بعد بروز تصدّع داخل معسكر الانفصاليين، من خلال تعالي أصوات ترى أن أكبر خطر يحدق بالإقليم يكمن في استمرار حالة الاستقطاب هاته، خصوصا في ضوء غياب دعم أوروبي ودولي لمشروع الانفصال، الأمر الذي من شأنه أن يهدّد النسيج الأهلي والمجتمعي، ويجهزَ على جملة مكاسب اقتصادية واجتماعية وثقافية، راكمها الإقليم طوال العقود الثلاثة المنصرمة. فهذه الأصوات، وإنْ كانت تتبنّى خيار الانفصال، إلا أنها باتت تدرك أن ذلك يجب أن يكون بأغلبية ساحقة، وباتفاق مع الدولة الإسبانية بمختلف مكوناتها، وهو أمر يبدو صعبا في ضوء ما أفرزه اقتراع الخميس الماضي.
تعيد الأزمة الكتالونية إلى الواجهة عجز الديمقراطيات الليبرالية إزاء تحولات الدولة الوطنية، وقضايا الهوية وتعايش القوميات والاندماج الوطني، وتدبير العلاقة بين الأغلبية والأقلية، ولا سيما إبان المنعرجات المجتمعية والسياسية الحاسمة. وباتت إسبانيا عينةً، على قدر كبير من الدلالة، من هذا التحدّي الكبير الذي يواجهه الفكر السياسي الغربي المعاصر، والذي يبدو عاجزا عن تقديم أجوبة متماسكة وناجعة بشأن بعض ما يواجهه الاجتماع السياسي الغربي المعاصر.

دلالات