النقد المزدوج

11 أكتوبر 2017
+ الخط -
لأسباب كثيرة، يغيب نقد المجتمع في الإعلام، وفِي خطاب المثقفين، إلا نادرا، ويحضر نقد السلطة، وإن كانت السلطة مسؤولةً عن جزء من أعطاب المجتمع، فهذا لا يعفي الفرد من مسؤولية الإعاقات الكثيرة التي تخترق المجتمع، وتجعله يعيد إنتاج شقائه وتعاسته.. من هذه الاختلالات التي تتكاثر في البيئة العربية، نجد أربعة على سبيل المثال:
أولا: أولوية الخاص على العام، وانتشار ثقافة "الأنانية"، وعدم تحمّل المسؤولية، والتعويض عن المشروع الجماعي بالمشروع الفردي، حتى تحوّل الإنسان العربي إلى شخص سلبي، مستعد لركوب كل المخاطر، من أجل تحقيق أحلامه الفردية، لكنه غير مستعد لبذل أي جهد من أجل الحلم الجماعي للوطن أو الأمة. لم تنتج الإحباطات المتتالية في تاريخ العرب المعاصر ثقافة للمبادرة أو التحدي أو الطموح، بل أنتجت ثقافة فردية، يركب الشاب العربي عرض البحر مخاطرا بحياته في رحلة هجرةٍ غير قانونية إلى أوروبا، عبر قارب مطاطي، فيعرّض نفسه لأهوال ومخاطر كبيرة، لكنه لا يجرؤ على الخروج في مظاهرةٍ سلمية للمطالبة بحقه في بلده.
ثانيا: الدين عندنا شكل قبل أن يكون جوهرا. نص قبل أن يكون مقصدا. طقوس قبل أن يكون معنى. مظهر قبل أن يكون سلوكا يوميا.. في الوقت الذي تزداد فيه مظاهر التدين في المجتمعات العربية، وتكثر المساجد، وترسل اللحى، وينتشر الحجاب، ويجتاح القاموس الديني اللغة اليومية للمواطنين، تزداد الجرائم ومظاهر الفوضى، وسلوكيات عدم التمدن. تجد المؤمن العربي يؤدي كل فروض الصلاة في المسجد، لكنه لا يؤدي الضريبة للدولة. تجد المؤمن العربي يحرص على الذهاب إلى الحج أكثر من مرة في حياته، لكنه لا يذهب، ولو مرة، إلى ملجأ أو مبرّة خيرية لرعاية الأيتام. فقهاء الوعظ العربي مشغولون بثقافة الحلال والحرام، ومأخوذون بالقراءة السلفية للدين، التي أفقرت الإسلام من معانيه الإنسانية، لأن ما يهم السلفي الوهابي ضمان ولاء المؤمنين لولي الأمر، وتسليم السلطة كل السلطة له، وبعدها يأخذ السلفي زمام التحكم في المجتمع، ليحكمه بسلاح هذا حلال وهذا حرام.
ثالثا: في مجتمعنا قلة صغيرة تنظر إلى المرأة إنسانا له كامل الحقوق، وأكثرية تنظر إليها أنثى وظيفتها توفير المتعة في الفراش، والطعام في المطبخ، وتربية الأولاد في البيت، وخارج هذا فهي مثيرة للغرائز في الشارع، أو "ولية" ضعيفة تستحق الشفقة والعطف.. المرأة في المجال العام، محجبة أو متحرّرة، تثير غرائز الذكر، ليس فقط لأن الأخير مكبوتٌ أو مريضٌ أو محبط، بل لأنه يرى المرأة من ثقب الجنس فقط، ولا يراها من باب الإنسان الذي لا يفرّق بين ذكر وأنثى إلا في الفراش، أما في الحياة العامة فالمرأة طبيبة وقاضية وشرطية ووزيرة ورئيسة حكومة.. ولا تنقص أنوثتها شيئا من إنسانيتها، كما أن الرجل لا تزيد ذكورته شيئا في إنسانيته.
رابعا: المال في مجتمعنا ليس وسيلة بل غاية، والإمكانات المادية تصبح أساس المفاضلة بين الناس، تحت شعار: "كم عندك كم تساوي"، ويزداد هذا المفهوم رسوخًا يوما بعد يوم، ليس فقط لأسبابٍ أخلاقية، بل لأسباب سياسية واجتماعية واقتصادية كذلك. في بلادٍ لا يطبق فيها القانون على الجميع، والمساواة موجودة فقط في الكتب المدرسية، والإحساس بعدم الأمان يخترق جل الأفراد، يصبح المال "بوليصة تأمين" على مستقبل الفرد المعزول عن مستقبل الجماعة.. تأمين من أخطار حقيقية أو متوهمة، ويصبح السعي إليه بسرعةٍ وبلهفةٍ مبرّرا لكل شيء.
لنقف هنا، وإلا فإن هناك أمثلة كثيرة على أعطاب مجتمعنا الذي يحتاج وقفة مع الذات، والتخلي عن النظرة اليسارية القديمة التي كانت تقدّس الجماهير الطاهرة والنقية، وتشيطن السلطة وتعتبرها فاسدة وملوثة.. مقولة إن لكل شعبٍ الحكومة التي يستحقها صحيحة إلى حد بعيد، إلا عندما تصير هذه الحكومة متسلطةً على رقاب لا تريدها. أما وأن الناس يقبلون الظلم، أو يسكتون عنه، ويعيدون إنتاجه في ما بينهم، فإن مقولة لكل شعب النظام الذي يستحقه صحيحة إلى إشعار آخر.
A0A366A1-882C-4079-9BED-8224F52CAE91
توفيق بوعشرين

كاتب وصحفي مغربي، رئيس تحرير جريدة "أخبار اليوم" المغربية.