"ألاقي زيّك فين يا علي"

18 سبتمبر 2015

مشهد من المسرحية (12آذار2015،العربي الجديد)

+ الخط -
استعارت رائدة طه ولينا أبيض مطلع أغنية صباح الشهيرة لتطلقاه اسماً على مسرحيةٍ، وصلت إلى عمّان، بعد أن جالا بها على مسارح لبنان واليونان وتونس وبعض دول الخليج. مسرحية أخرجتها لينا أبيض، وكتبت نصها ومثلتها رائدة طه التي حبست أنفاسنا 90 دقيقة، وهي جالسة على أريكة في زاوية المسرح، لتروي لنا قصة والدها الشهيد علي طه، في ما يشبه العزف المنفرد الذي يأسر الألباب.
الشهيد علي طه ورفاقه الشهيد عبد الرؤوف الأطرش وتريز هلسة، إبنة الكرك الأردنية، وريما عيسى خطفوا طائرة في 1972، وهبطوا بها في مطار بن غوريون القريب من تل أبيب، مطالبين بإطلاق سراح مائة أسير في سجون الاحتلال الإسرائيلي. وبعد مفاوضات بواسطة الصليب الأحمر، استمرت أكثر من عشر ساعات، تظاهر العدو أنه وافق على إطلاق سراح الأسرى، وطلب الصليب الأحمر من الخاطفين السماح بإدخال الطعام والشراب للركاب في الطائرة، إلا أن جنود الاحتلال اندفعوا خلف عربات الطعام، مرتدين ملابس العمال والصليب الأحمر، حيث استشهد علي وعبد الرؤوف، وأسرت تيريز وريما، وقتل بعض جنود الاحتلال. بعد 22 يوماً، وصل إلى المطار نفسه ثلاثة يابانيين على ظهورهم حقائب أدوات عزف موسيقية، أخرجوها وعزفوا عليها، وما أن اجتمع حولهم جمهور غفير، حتى أخرجوا رشاشاتهم وقنابلهم اليدوية في عملية انتقامية لرفيقهم علي طه، ما أسفر عن مقتل 22 صهيونياً.
أعادت لنا رائدة طه شخصية الحكواتي الذي كان يجلس في زاوية المقهى، ويقصّ علينا الحكايا، متعمّداً إبهارنا، ليحصل على إعجابنا وصيحاتنا، وشهقاتنا أحياناً، لكن رائدة اختارت
مساراً معاكساً، إذ باغتتنا، منذ اللحظات الأولى للنص، وقررت أن تصدمنا، وأن تغيّر الصورة النمطية السائدة في عقلنا الجمعي عن الشهيد والشهادة، بل وعن التجربة الثورية الفلسطينية برمتها، وتسللت إلى مفاهيمنا الراكدة فينا، لكي تزلزلها، في قراءة نقدية واعية تجاوزت المُثُل النظرية والمعاني السامية والأفكار الأزلية التي تراودنا، وتشكل جزءاً من نسيجنا. كان هدفها أن تنزع عنّا رداءنا الذي اكتسبناه عبر الزمن، وأن تأسرنا وتشدنا إلى روايتها هي، وقد نجحت. أبكتنا وأضحكتنا، ولم تمنحنا فرصة، وهي جالسة على أريكتها لالتقاط أنفاسنا، تداخلت الدمعة مع البسمة مع الحزن والسخرية والدهشة والبساطة والبطولة. ونقلتنا من فضاء إلى آخر، ومن عاطفة إلى سواها، بلمح البصر.
بدأت رائدة روايتها بسرد قصة محاولة الاعتداء التي تعرضت لها، حين اقتحم غرفتها في الفندق شخصية نافذة، خلال رحلة مع ياسر عرفات الذي كانت تعمل سكرتيرة صحافية له. لم يُسعفها سوى الصراخ وخوفه من الفضيحة، فلملم سرواله وفرّ هارباً. يومها فقط أحسّت باليتم ومعنى فقدان الأب، وأقامت في داخلها مجلس العزاء، ولم تدرِ إن كانت، في تلك اللحظة، تحب الشهيد البطل، أم تكره الأب الذي اختار فلسطين، وتركها ووالدتها وإخوتها وحدهم.
تصف رائدة بدقة ما تتعرض له عائلة الشهيد وزوجته وعائلته، وتعرّج من خلال ذلك على الوضع الفلسطيني، بل وعلى القيادة الفلسطينية نفسها. وتقدّم بذلك صورة حقيقية للفعل البشري، بخيره وشرّه، بعيداً عن أي تصوّر مثالي، وبنقد شديد يصل إلى حد الاستهزاء والسخرية اللاذعة المبكية. وعندما ترشدنا إلى نموذج إيجابي مختلف، تطلق عليه اسم عمو غازي، تتساءل عن سبب هذا الحب، لتكتشف أنه عائد ربما لكونه أيضاً ابن شهيد (عبد القادر الحسيني).
في الجزء الأخير من المسرحية، تنقلنا رائدة إلى القدس، إلى عمتها المقيمة هناك، تنجح في تقمّص شخصيتها، واستعارة لكنة حديثها الخليلية المتميّزة. أصرّت العمة على استعادة جثمان شقيقها الذي رفض العدو السماح لهم بدفنه، واحتفظ بجثمانه في ثلاجة حفظ الموتى. تأخذ العمة على نفسها نذراً أن لا تتغطى في نومها طالما شقيقها محبوس في "البرد والعتمة". بعد أكثر من سنتين، تنجح العمة في الوصول إلى هنري كيسنجر خلال زيارة له القدس، وتتسلل إلى مقره، يتم منعها من مقابلته، لكنها تلمحه، فتصيح عليه "كيسنجر تعا لهون. أنا بدي أخي". في اليوم الثاني، تتسلّم العمة الجثمان، ويتم تشييعه بجنازة حاشدة، على الرغم من أنف العدو، من الحرم الإبراهيمي، بعد أن كانت قد قضت ليلةً وهي تخيط علماً فلسطينياً، هرّبته إلى المقبرة، لتلف جثمانه به.
"ألاقي زيّك فين يا علي"، محاولة جريئة لكتابة الذاكرة الفلسطينية، بطريقة أخرى أوضح، وأكثر قرباً من الحقيقة، وشرح للمفاهيم السائدة بطريقة تختلف عن المألوف، وإثبات أن أهل الشهداء، زوجاتهم، أولادهم الصغار، يجترحون بعد استشهادهم في كل يوم، بل في كل لحظة، بطولة حقيقية في الثبات والعيش ومواجهة الفتن ومواصلة الطريق، بطولة لا تقل عن بطولة الشهداء. ولعلّ هذا ما أرادت رائدة طه أن تقوله لنا.

34BA9C91-C50D-4ACE-9519-38F0E79A3443
معين الطاهر

كاتب وباحث فلسطيني، عضو سابق في المجلس الثوري لحركة فتح والمجلس العسكري الأعلى للثورة الفلسطينية، ساهم في تأسيس الكتيبة الطلابية منتصف السبعينات، قائد للقوات اللبنانية الفلسطينية المشتركة في حرب 1978 منطقة بنت جبيل مارون الراس، وفي النبطية الشقيف 1982.