مخطّط أميركي إسرائيلي

27 مايو 2024
+ الخط -

يومًا بعد يوم، تتّضح ملامح الخطّة الأميركية، التي تسعى الولايات المتّحدة إلى فرضها على فلسطين، والتي تهدف إلى القضاء على المقاومة، وتصفية القضية الفلسطينية. وعبر ادّعائها الزائف بتبنّي حلّ الدولتيْن تُمهّد لاستكمال التطبيع العربي مع الكيان الصهيوني، الذي سيُدمج في محور عربي – إسرائيلي يحظى باتفاقات أمنية مع الولايات المتّحدة، في سياق الاستراتيجية الأميركية لترتيب أوضاع الإقليم. 
تتطابق الأهداف الإسرائيلية والأميركية في حرب الإبادة الجماعية، التي تُشن على غزّة، فكلاهما مجمعان على هدف تصفية المقاومة والقضاء على حركة حماس، وتلتزم الولايات المتّحدة كلّياً بأمن إسرائيل، وتورّد إليها 78% من احتياجاتها من الأسلحة والذخائر التي لم يتوقّف تدفّقها يوماً واحداً، وتُسخّر حاملات طائراتها لردع من يُفكّر في التدخّل في الحرب، وتُسقط 70% من الصواريخ والمُسيّرات الإيرانية قبل أن تصل إلى فلسطين، ويعمل المستشارون العسكريون الأميركيون، جنباً إلى جنبٍ، مع زملائهم الإسرائيلين لترشيد قراراتهم، وتمنع صدور أيّ قرارٍ بوقف إطلاق النار، وتُعارض قرار المُدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية باعتقال بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت، وتعمل جاهدة لتقييد النظام العربي الرسمي، ومنعه من التحرّك الفاعل لوقف المقتلة.
لا يتعلّق التباين بين إدارة بايدن والحكومة الإسرائيلية بأهداف الحرب وغاياتها، بل بأسلوب تحقيقها. الولايات المتّحدة تحاول أن تنقذ إسرائيل من نفسها، وأن تُحسّن صورتها أمام العالم، وتخشى عليها أن تصبح دولةً منبوذةً ومُتّهمة بالإبادة الجماعية، وتعتقد أنّ نتياهو لا يمتلك أيّ مخطّط لإنهاء الحرب أو التعامل مع نتائجها، وأنّه يستخدم فائض القوّة بدافع من غريزة الثأر والانتقام من دون وجود أهداف واضحةٍ يسعى لتحقيها، وهو بذلك يضرّ بالسياسة الأميركية ومخطّطاتها في المنطقة، فنراها تحاول تجميل صورتها ببناء رصيفٍ عائم، وبالحديث عن المساعدات الإنسانية، وضرورة فتح المعابر، وهو العنوان الذي يتصدّر تصريحات المسؤولين الأميركيين في كلّ زيارة إلى المنطقة، ويترافق معه فشل دائم في تحقيقه، ويتفتق ذهنها، أخيراً، عن حظر توريد القذائف الثقيلة، التي يزيد وزنها عن ألفي باوند، في ظلّ استمرار توريد أنواع أخرى لا تقلّ فتكاً وتدميراً، وكأنّ مشكلتها تكمن في نوع السلاح المناسب لتحديد العدد اللازم قتله من الفلسطينيين.

أوهمت الإدارةُ الأميركيةُ السلطةَ الفلسطينيةَ أنّ الحرب ستحقّق أهدافها بتصفية المقاومة خلال ثلاثة أسابيع، وأنّ السلطة ستكون الجهة المُؤهّلة لحكم قطاع غزّة

السيناريو الأميركي هو المخطّط الأكثر وضوحاً، في ظلّ عجز حكومة نتنياهو عن تحديد هدف سياسي لنهاية الحرب، وضعف النظام العربي الرسمي، وتراجع قدرته على التدخّل الفاعل، وارتهان السلطة الفلسطينية للإملاءات الأميركية بتجديدها تحت شعار إصلاحها، وإعادة تأهيل أجهزتها الأمنية، لملاءمة المتطلّبات الإسرائيلية. المخطّط الأميركي يريد أن تتزامن الحلول السياسية مع العمليات العسكرية للجيش الإسرائيلي، ويسعى إلى توريط بعض الأجهزة الفلسطينية، وإعادة تدريب نحو خمسة آلاف فلسطيني، وإقحامهم مع  قوات عربية أو دولية تشارك في تصفية جيوب المقاومة وبنيتها التحتيّة، ومنعها من إعادة تنظيم صفوفها، بإشراف أميركي يضمن حرّية تحرك الجيش الإسرائيلي لضرب أيّ أهداف محتملة، وهو مخطّط رُسمت ملامحه الأولى عبر اللوبي الصهيوني في واشنطن، في الأسابيع الأولى للحرب، وتبنّته لاحقاً الإدارة الأميركية رسمياً، وبدأت تروّجه لدى العواصم العربية، وتتّضح كلّ يوم بعض تفاصيله.
ورغم إعلان دول عربية رفضها المشاركة في هذه القوّة، إلا أنّ دعوة القمّة العربية الأخيرة لتشكيل قوّة لحفظ السلام في غزّة والضفّة الغربية يُشكّل ثغرة قد ينفذ منها المشروع الأميركي. فمثل هذه القوّة تصبح مطلباً وضرورةً فقط، عندما تنحصر مهامها في الإشراف على انسحاب الجيش الإسرائيلي وتفكيك المستوطنات. ولذا فإنّ موقفاً عربياً واضحاً يعدّ أمراً مطلوباً في إفشال الخطّة الأميركية، كما أنّ سعي دول الإقليم المُؤثّرة (تركيا وإيران ودول عربية) في حلّ خلافاتها، وترتيب علاقاتها، يُشكّل خطوة أخرى هامة في منع الولايات المتّحدة من التدخّل في الإقليم.
منذ الأيام الأولى، أوهمت الإدارةُ الأميركيةُ السلطةَ الفلسطينيةَ أنّ الحرب ستحقّق أهدافها بتصفية المقاومة خلال ثلاثة أسابيع، وأنّ السلطة ستكون الجهة المُؤهّلة لحكم قطاع غزّة في المرحلة القادمة، لكنّها سرعان ما تخلّت عن وعدها بعد الرفض الإسرائيلي فكرة عودة السلطة إلى غزّة ووحدتها مع الضفّة، وهي (إسرائيل) التي تمارس في الضفّة سياسات لا تقلّ خطورةً عن سياساتها في القطاع، وتسعى عملياً إلى تحويلها إلى كانتونات معزولة، وتفكيك السلطة الفلسطينية، فكان أن تقدّمت الولايات المتّحدة بمشروع جديد يدعو إلى إعادة تأهيل السلطة وإصلاحها، ويشمل ذلك أجهزتها الأمنية، ضمن سقف زمني يمتدّ إلى ثلاثة أعوام، تكون بعدها مُؤهلّةً للانخراط في مفاوضات التسوية السياسية، أي إنّه لا يُتاح لها تأدية أيّ أدوار فعلية خلال هذه المدّة التي سيُعاد فيها تأهليها، لتضمن الرضا الإسرائيلي، وهي مدّة زمنية فاقت تلك التي اقترحها الرئيس جورج بوش (الابن)، والرباعية الدولية، في خريطة الطريق التي حُدّدت بعام واحد لإعادة تأهيل الفلسطيني الجديد، ولم ينتهِ هذا العام، حتّى الآن، واستُخدمت شروط الرباعية الدولية لمنع تحقيق أيّ مصالحة فلسطينية منذ الانقسام.

المطلوب أميركياً وإسرائيلياً وجود طرف فلسطيني يمنح الشرعية لتصفية المقاومة، ويحلّل النظام العربي من التزاماته تجاه فلسطين

من جهة أخرى، دعا الرئيس جو بايدن إلى حلّ الدولتيْن لإنهاء الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، لكنّه، أيضاً، سرعان ما تراجع عن هذا الوعد بمنحه تفسيرات لشكل الدولة وطبيعتها تنزع عنها جوهرها، وانتهى بإحالة هذا الحلّ إلى المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية، وكان واضحاً أنّ هدف الدعوة تمرير اتفاقيات التطبيع العربية بادعاء أنّ القضية الفلسطينية قد حُلّت، وبدلاً من التمسّك بتفكيك الاستيطان ووضع برنامج زمني للانسحاب، أصبحت المسألةُ تتعلّق فقط بتصريح إسرائيلي بشأن نيّتها العودة إلى المفاوضات التي ستقرّر شكلَ الدولة المزعومة، وحيّزها الجغرافي وصلاحياتها، ومقابل هذا التصريح، الذي لا قيمة له، يستأنف التطبيع العربي – الصهيوني. يتعذّر تمرير هذا المشروع من دون مشاركة طرف فلسطيني فيه، سواء أكان هذا الطرف قائماً، مثل السلطة الفلسطينية أو بعض رموزها، أم عبر أُطر جديدة شبيهة بروابط القرى التي صنعها الاحتلال في الضفّة الغربية في نهاية النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، وفشلت فشلاً ذريعاً. المطلوب أميركياً وإسرائيلياً وجود طرف فلسطيني يمنح الشرعية لتصفية المقاومة، ويحلّل النظام العربي من التزاماته تجاه فلسطين، ويشرعن التطبيع العربي. وتكمن الإشكالية، هنا، في أنّ السلطة الفلسطينية، رغم إدراكها أنّ الاحتلال يسعى إلى تقويضها، وأنّ السياسة الأميركية متواطئة معه، ورغم حجب أموال المقاصّة، واستمرار استخدام الولايات المتّحدة حقّ النقض (فيتو) في مجلس الأمن، وحيلولتها دون الاعتراف بالدولة الفلسطينية، فإنّ النافذين فيها ما زالوا يعتقدون أنّ تقديمهم المزيد من التنازلات، وخضوعهم لما يُمارَس عليهم من ضغوط، واستسلامهم للإرادة الأميركية – الإسرائيلية، شرطٌ لازمٌ لبقائهم، بدلاً من التصدّي للاحتلال ومقاومته.

الموقف الفلسطيني حاسم في إفشال المخطط الأميركي - الإسرائيلي، ويسانده في ذلك حراك الشارعيْن العربي والغربي

 في مواجهة هذا الواقع، تأتي الدعوة إلى رصّ الصفوف الفلسطينية والعربية، وعقد مؤتمر وطني فلسطيني يجمع الكلّ الفلسطيني؛ تيّارات سياسية، واتجاهات فكرية، ونشطاء، وكوادر، ونُخباً فاعلة في مختلف المجالات، من داخل فلسطين ومن خارجها، يدعو إلى إعادة بناء منظّمة التحرير الفلسطينية، وتشكيل قيادة فلسطينية موحّدة، ويُؤكّد حقّ الشعب الفلسطيني في المقاومة بأشكالها كلها، وحقّه في العودة وتقرير المصير، ويسعى لتحقيق العدالة للشعب الفلسطيني، ويرفض أيَّ محاولة من أيّ جهة لتقديم تنازلات أو حلول باسم الشعب الفلسطيني، كما يقوم بدوره في جهود إغاثته ودعم صموده على أرضه. الموقف الفلسطيني حاسم في إفشال المخطط الأميركي - الإسرائيلي، ويسانده في ذلك حراك الشارعيْن العربي والغربي، وعزل الكيان الصهيوني في العالم، ووقف التطبيع العربي، أو في الحدّ الأدنى، عدم منحه مبرراً، مثل ذاك الذي فعلته اتفاقات أوسلو، ورفض المقولات التي تدّعي أنّ التطبيع يهدف إلى مساعدة الشعب الفلسطيني، واعتباره مدماكاً في تصفية القضية الفلسطينية، مدركين أنّ موقفاً فلسطينياً موحّداً سيكون له تأثير بالغ، ليس في الشارعين العربي والغربي فحسب، وإنّما في النظام العربي الرسمي والمجتمع الدولي أيضاً، إذ عادت القضية الفلسطينية، بعد أكثر من مائة عام على الانتداب البريطاني على فلسطين، إلى سيرتها الأولى، بقوّة وزخم لم تشهدهما سابقاً قضيةٌ مركزيةٌ في العالم العربي.

34BA9C91-C50D-4ACE-9519-38F0E79A3443
معين الطاهر

كاتب وباحث فلسطيني، عضو سابق في المجلس الثوري لحركة فتح والمجلس العسكري الأعلى للثورة الفلسطينية، ساهم في تأسيس الكتيبة الطلابية منتصف السبعينات، قائد للقوات اللبنانية الفلسطينية المشتركة في حرب 1978 منطقة بنت جبيل مارون الراس، وفي النبطية الشقيف 1982.