كيف نتذكّر "20 فبرايـر" في المغرب

كيف نتذكّر "20 فبرايـر" في المغرب

20 فبراير 2015

مظاهرة بالرباط تطالب بالإفراج عن معتقلين (28 مايو/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -
قبل أربع سنوات، انطلق الحراك الشعبي في المغرب، معلناً ولادة النسخة المغربية من الربيع العربي. ففي غمرة الزخم الثوري الذي أحدثته الثورتان، التونسية والمصرية، أعلنت مجموعة من الناشطين الشباب المغاربة تأسيس حركة 20 فبراير كأفق مغاير للاحتجاج العمومي ضد سياسات الحكومة المتبعة. وقد وجدت السلطة نفسها، ومعها الطبقة السياسية بمختلف مكوناتها، إزاء حركة احتجاجية منظمة، نقلت مطالب فئات اجتماعية واسعة إلى الشارع الذي تحولت ساحاته وميادينه إلى فضاءات لإنتاج مختلف أنماط الخطاب السياسي وتداولها.
ضمت الحركة فئات اجتماعية متنوعة ومتباينة في أصولها وانتماءاتها السوسيو مهنية وخلفياتها الثقافية والسياسية والإيديولوجية. فقد التحق بها إسلاميون وليبراليون ويساريون وعلمانيون. كما حظيت بدعم تنظيمات حقوقية وأمازيغيـة ونقابية ونسائية ومساندتها. وإذا كان هذا التنوع قد شكل، من جهة، أحد أهم الموارد التعبوية للحركة، فإنه، من جهة أخرى، أثر على تماسكها التنظيمي، خصوصاً بعد بروز الصراع بين مكوناتها اليسارية وجماعة العدل والإحسان الأصولية. ولعل اللافت، هنا، في أدائها اعتمادها على الإعلام البديل (مواقع التواصل الاجتماعي)، سواء على مستوى توسيع قاعدتها، أو على مستوى تسخير هذا الإعلام لوضع الاحتجاجات في سياق مختلف عن الذي اندرجت فيه الاحتجاجات الدامية التي عرفها المغرب أعوام 1965، 1981، 1984 و1990. وبذلك، يمكن اعتبار سلوكها تحولاً نوعياً بالنسبة لمسار الحركة الاحتجاجية في المغرب. علاوة على ذلك، كشفت الحركة بالملموس ضعف الأحزاب المغربية الكبرى، وتخلفها عن مواكبة التحولات العميقة التي عرفها المجتمع في العقدين الأخيرين، وأفرزت مغرباً آخر، تشكل بعيداً عن مقراتها وفروعها التي تحولت إلى فضاءات لصناعة الريع السياسي وإنتاجه.
طالبت حركة 20 فبراير بإقرار الملكية البرلمانية، وبوثيقة دستورية جديدة، تضمن الفصل التام للسلطات، وبإسقاط الحكومة وحل البرلمان، وتشكيل حكومة انتقالية مؤقتة، تخضع لإرادة الشعب. كما طالبت بقضاء مستقل ونزيه، وبمكافحة الفساد واستغلال النفوذ ونهب ثروات البلاد، والاعتراف بالأمازيغية لغةً رسمية، وبإطلاق سراح المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي، وإطلاق الحريات واحترام حقوق الإنسان، وتوفير فرص عمل للعاطلين، وضمان حياة كريمة ورفع الأجور وتعميم الخدمات الاجتماعية.
لم تكن هذه المطالب مجرد تعبير عن حالة سخط عامة اتجاه مختلف السياسات العمومية المطبقة في المغرب لسنوات طويلة، بل كانت كذلك تعبيراً عن الرغبة في تحديث شامل للنسق السياسي المغربي، أو على الأقل تطعيم مرجعيته الفكرية والفلسفية التقليدية بموارد أخرى تنتمي لحقل الحداثة السياسية. ولذلك، كان مطلب الحركة بإسقاط الاستبداد دالاً، على اعتبار أنه انطوى على قبول بالنسق السياسي القائم، لكن ضمن أفق جديد، تتحول فيه الملكية المغربية من تنفيذية إلى برلمانية، يسود فيها الملك ولا يحكم. وبمعنى أصح، التحول نحو مشروعية سياسية مغايرة، تنبني على صياغة تعاقد جديد بين الدولة والمجتمع.
وعلى الرغم من أهمية ذلك كله، إلا أن الحركة ظلت معتدلة في مطالبها بشكل عام، إذا ما قورنت بما حدث في بلدان الربيع العربي الأخرى. لم ترفع الحركة شعار "المطالبة بإسقاط النظام"، بل طالبت بإسقاط الاستبداد، في خطوة دالة على مغربة رياح التغيير التي هبت على المنطقة، وضبطها على إيقاع السياق الثقافي المغربي المعروف باعتداليته، وقدرته على التكيف مع المتغيرات المختلفة لمحيطه. ما يعني أن الحركة امتلكت الحد الأدنى من الحس السياسي الذي دفعها إلى قراءة الأوضاع على الأرض بشكل جنبها المجازفة والذهاب بعيداً في رفع مطالب أكثر راديكالية قد تؤدي إلى ما لا تحمد عقباه. إضافة إلى ذلك، فإن تردد شرائح كبيرة من الطبقة الوسطى في دعم ومساندة الحركة وانقسامَها إزاء مطالبها ساهم، بشكل أو بآخر، في خفوت توهجها لاحقاً، وبالأخص مع المنعرجات المأساوية التي عرفتها الثورات العربية، مع نهاية عام 2011.
منذ البداية، تعاملت السلطة بذكاء كبير مع الحركة، سواء في ما يخص التدبير الأمني للاحتجاجات التي غطت مدناً ومناطق كثيرة، أو في ما يخص الاستجابة لمطالبها المختلفة. فلم تواجِه المظاهرات بالعنف والرصاص، كما حصل في بلدان عربية أخرى، بل انحنت حتى
مرت العاصفة، واستطاعت أن تخرج بأقل الخسائر. فبعد أسبوعين من انطلاق الاحتجاجات، ألقى العاهل المغربي، محمد السادس، خطاباً عبّر فيه عن تفهمه مطالب المحتجّين، واستعداده للتعاطي الإيجابي معها. فأعلن عن تعديل دستوري، وعين لذلك لجنة عملت على فتح مشاورات واسعة مع الأحزاب والنقابات والمجتمع المدني. وفي السياق نفسه، أقدمت الحكومة على رفع أجور موظفي القطاع العام، في خطوةٍ لا تخلو من دلالة، بهدف تحييد شرائح واسعة من الطبقة الوسطى، ودفعها إلى سحب تأييدها مطالب الحركة.
وعلى الرغم من أن السلطة نجحت في الالتفاف على مطالب المحتجين، من خلال إجراء استفتاء دستوري، وتنظيم انتخابات تشريعية مبكرة، وإدماج قطاع مهم من الإسلام السياسي المغربي ممثلاً في حزب العدالة والتنمية الذي يقود الحكومة الحالية، إلا أن حركة 20 فبراير استطاعت أن تنتج إحدى أهم اللحظات السياسية في تاريخ المغرب المعاصر. فقد ساهمت في فتح ورش الإصلاح الدستوري والمؤسساتي الذي ظل، طوال العشرية الأولى من حكم الملك محمد السادس، يراوح مكانه، في ظل انتهازية معظم التنظيمات السياسية والنقابية. صحيح أنها لم تستطع بلورة مشروعها السياسي والاجتماعي المتكامل، إلا أنها ساهمت، بشكل فعال، في تعزيز الموارد النضالية والرمزية للحركة الاحتجاجية في المغرب. ويمكن القول إن تباينَ مشارب مكوناتها الفكرية والإيديولوجية والسياسية، وافتقادها خبرة العمل السياسي، وضعفها التنظيمي ومعاداة معظم مكونات الطبقة السياسية لها، وعدم انخراط المثقفين في تعزيز هياكلها وإغناء أدبياتها، وقد ساهم ذلك كله في تراجعها وانطفاء جذوتها النضالية أشهراً قليلة بعد تأسيسها.
كما أنه لا يمكن إغفال تأثير التحولات التي عرفها الحراك العربي، منذ نهاية 2011 على استمراريتها، خصوصاً بعد عسكرة الثورة السورية، ودخولها نفقاً مسدوداً. كما أدت حالة الاستقطاب التي طبعت المشهد السياسي المصري بعد ثورة 25 يناير، وفشلُ النخب في بلدان أخرى في صياغة توافقات اجتماعية وسياسية متينة، والاحترابُ الطائفي والمذهبي الذي أجهز على النسيج الاجتماعي والثقافي لأكثر من بلد عربي، كلها عوامل عجلت بتفكك الحركة تدريجياً، خصوصاً بعد انسحاب جماعة العدل والإحسان منها في ديسمبر/كانون الأول 2011. الآن، وقد جرت مياه كثيرة تحت جسور الربيع العربي، يمكن القول إن حركة 20 فبراير لم تكن إلا الابنةَ الشرعية لسياق مغربي وعربي، لم يكن من الممكن أن ينتج مساراته ومآلاتـه بعيداً عن تربته الثقافية والاجتماعية. وحسب سوسيولوجيـا الحركات الاحتجاجية، فإن تعثر الأخيرة في الدفع بعجلة التغيير الاجتماعي والسياسي في بلد ما، لا يرتبط فقط بمدى قوة النخب الحاكمة وتسلطها، وطبيعة التوازنات الاجتماعية القائمة، بل، أيضاً، بطبيعة الثقافة السياسية التي ينتجها المجتمع، ويعمل على تصريفها من خلال نظمه ومؤسساته المختلفة.