الغرب بين الدم والعطالة الأخلاقية

29 يوليو 2014

متضامن يرفع العلم الفلسطيني رغم قمع الأمن الفرنسي (يوليو/2014/Getty)

+ الخط -

سمحت تل أبيب بما لم تسمح به باريس، فاحتج الإسرائيليون المعارضون لاغتيال غزة، في وقت أصدرت فيه المحكمة الإدارية، ثم مجلس الدولة، الفرنسيان، قراراً بمنع المتظاهرين من أبناء فرنسا من التعبير عن مساندتهم الضحايا، أو التعبير، على الأقل، عن استهجانهم "الذكاء الإجرامي" لحرب إسرائيل. وأصبحت المفارقة هي كالتالي: القاتل الدموي أكثر أريحيةً وارتياحا في جبة الدولة الديمقراطية التي تقتل الفلسطينيين، وتسمح بالتضامن معهم، من الديمقراطي الذي يسانده ويرفض التبعات الأخلاقية لألم الضحية، وينسف، في الوقت نفسه مبادئ ثورته الخالدة (حرية، عدالة، أخوة).

وأعطت دولة فرانسوا هولاند، في هذه المعادلة، الفرصة "التاريخية" لكي تتحقق نبوءة نابوليون بونابارت، أن "المستحيل ليس فرنسياً"، وهو مستحيل ملتبس، متناقض ومتعفن هذه المرة، بحيث بدأ فرانسوا هولاند، الذي يؤسس أسطورة انتمائه اليساري على تراث مانديس فرانس، وجان جوريس، بإعطاء إسرائيل حق الدفاع عن "شعبها"، والعدد الواضح من القتلى الفلسطينيين وقتها في حدود 62 ضحية. ومع ارتفاع العدد إلى ما يفوق الألف، ارتفع منسوب الجنون الباريسي، وأصبح من حق إسرائيل أن تقتل ما تشاء، وليس من حق الشعب الفرنسي أن يعبر عن معارضته القتل.

لم يتجاوز الضمير الغربي المعذب بالذنب، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، سقف الفظاعة في تبرير القتل الإسرائيلي، ولم يسبق لهذا الضمير، الحامل الأبدي لمنظومة الشعور بالتأنيب مما اقترفه هو، في حياة سابقة، أن اعتبر أن التضامن مع الضحايا موقف غير مبرر أخلاقياً، أو اعتبر أن حالة وجود معنوية ضد الإرهاب الذي تمارسه الدولة الإسرائيلية، هي جموح لا قانوني، تمنعه ترسانة النظام الغربية، كما يحدث اليوم، بعد أن اختار فرانسوا هولاند، بلا خجل، الوقوف إلى جانب الجهة الظالمة في الصراع.

لا شك أن قمة التناقض الفرنسي، تتجلى في أن تبدو دولة تقتل أزيد من ألف فلسطيني مدني، في أقل من شهر، أكثر "ديمقراطية" من الغرب الديمقراطي، الذي يعتبرها امتدادا لها، ويعتبر إسرائيل، واحة ديمقراطية وسط صحراء العرب المتخلفة، دليلاً على تفوق (أخلاقي) يسمح لها بالقتل متى تشاء.

وتحتمي باريس بجنون غير مسبوق في الحكم على القتلى والضحايا والأطفال والأرامل والمشردين، يجعلها، في الوقت ذاته، تحرك الآلة الديبلوماسية، من أجل وقف إطلاق النار على شعب محاصر. والسؤال الذي ترفضه الفجيعة: هل من الضروري أن تكون العاصمة التي تحرك ساعة الرمل الديبلوماسية البطيئة، هي نفسها التي لا تعتبر التضامن مع القتلى واجباً أخلاقياً ورمزياً، وتمنع الشوارع عن المتضامنين؟

هناك مستحيل لا نفهمه في الحالة الباريسية حقا!

لا يمكن تفسير ما يحدث، إلا بالبحث في معنى موت الشعب الفلسطيني، في آلة التفكير المثقلة بالتناقض المتعفن: ليس الحق الفلسطيني سوى دليل على حنين يمثل تجربة جمالية (استاتيكية) لشعوب تريد الانتماء إلى ما هو غامض: الحياة، في وقت ينهمر عليها الموت، احتمالاً وحيداً لتخصيب الأرض المتنازع عليها، أو بالتدقيق، بعد أن صارت الحياة أفقاً غامضاً يعوض انهيار مسلسل السلام الحقيقي، أصبح الموت الأجندة السياسية والديبلوماسية الوحيدة الممكنة لكي يوجد الشعب الفلسطيني، بدون نصير من شعب دولةٍ تسعى إلى تحريك الديبلوماسية ذاتها لفائدته!

ذلك معناه أنه لا يمكن لنا أن نتخيل الشعب الفلسطيني في أي احتمال آخر، غير احتمال الفاجعة والقتل الذي يحدث اليوم، وسيحدث غداً في غزة وفي غيرها، ولا يمكن أن نتخيل الفاجعة الفلسطينية، في أي كتاب آخر سوى كيان الضمير الغربي الذي يبحث عن مبرر معقول ومعاصر، لكي يثبت أنه لم يقتل اليهود في حرب سامية سابقة، لأن فرنسا المسكونة بتعاونها مع النازية ضد اليهود، تريد دوماً أن تفك عن نفسها أحزمة التأنيب الناسفة لتراثها بقبول القتل الإسرائيلي.

تمتحن فرنسا جدارتها الديبلوماسية، بدون أن تكلف نفسها جدارة الفوز في امتحان الأخلاق!

في هذه الشبكة الداكنة من العبث، لا تفهم الفلسطيني الميت إلا كمبرر منطقي، لكي لا تخاف إسرائيل على نفسها. وبوضوح أكبر؛ كلما اقترب العالم من مقابر الهواء الطلق، أو القبور الصاعدة في الهواء مع الغبار والصراخ وآيات الله الحزينة، التف في غمامةٍ من التناقض، وبلادة الإحساس بالموتى، وتقدم من جثامين الأطفال باعتبارهم فقط، أسباباً مقنعة لكي تخاف تل أبيب على سلامتها، وكل فلسطيني ميت هو حجة ضد الفلسطيني الحي، تثبت بأنه إذا لم يمت سيقتل إسرائيل.

وفي أقسى هذا الهذيان الغريب حول الفاجعة، أصبح التعريف الجديد لموازين القوى بين الجلاد والضحية هو اعتبار الموتى "مجرد دروع" بشرية للأحياء الذين يصرون على القضاء على إسرائيل وشعبها، الذي يرى فرانسوا هولاند أن من حق تل أبيب المقدس الدفاع عنه!

من جنون ما يقع، إن المعرفة المرة، الدقيقة والتفصيلية للكارثة، لا تعفينا من الذهول، وأحياناً من الدهشة الطازجة، الطالعة لتوها من فظاعة ما يحدث، كما لو أنه يحدث لأول مرة، ألف قتيل ولم يبدأ القتل بعد.
بهذا المعنى، تصل العواصم إلى مائدة التفاوض، بدون القتلى أو من يمثلهم في الحداد، سلطة كان أو فصيلاً أو حتى مؤسسة لدفن اللاجئين. فكيف نفهم أن الرئيس الذي أعطى شيكاً على بياض لسفاح إسرائيل، بنيامين نتنياهو، وهو يتناول العشاء معه في زيارة تل أبيب، يمكنه أن يدشن طريقا للسلام أو للديبلوماسية؟ كيف يمكن أن نسوغ أن الرئيس الذي أعلن القطيعة مع التوازن الذي طبع تاريخ فرنسا في القضية الفلسطينية، يمكنه أن يعرف ميزان العدل بين الضحية والجلاد، أو أن نجد في منظومة عقله السياسي ما يجعل المحبين للسلام مطمئنين على أن الموتى لن ينافسهم أحد تحت الأنقاض مجدداً؟

صعب للغاية أن نفرق بين باريس وتل أبيب، حتى ولو كانت عاصمة الأنوار لا تضاء بالقذائف، ففي الحالتين يكون الفلسطيني، في أسوأ الأحوال، هو الموضوع الذاتي لموته، وفي أحسن الأحوال الموضوع الشخصي لحياته المليئة بالموت، ولا شيء غير ذلك. وتريد تل أبيب بالقتل، وباريس بتبريره، ما يلي: موت الفلسطيني هو شرط نزاهته ضد نفسه، لأنه، في محصلة التواطؤ بين العاصمتين، قاتل محتمل، في كفن أو تحت الأنقاض، أو حول مائدة التفاوض. الفلسطيني الذي يليق بالحوار، هو الذي يكون نزيهاً في الشهادة ضد الموتى من شعبه. خارج ذلك، تكون المعادلة لا تستحق المجهود الباريسي في إيجاد حل، أو وقت لدفن الموتى.

ما زالت فرنسا، في شخص حكامها، الوزيرين لوران فابيوس، وبيرنار كازنوف، في الخارجية والداخلية، تردد على مسامعنا تضامنها مع (مواطنيها اليهود)، كما لو أنهم، في فرنسا، يخافون من الموت الفلسطيني من أن يصيبهم بالعدوى، كما لو أن دبابات (الميركافا) أضحت في يد المسلمين، وهي تهاجم الشانزيليزيه.

ليس هناك بؤس أخلاقي، كما هذا الذي تعيشه النخبة الحاكمة اليوم في باريس. بؤس يضع معادلة غريبة في فهم العواصم العالمية، تفيد بأن الفهم الوحيد الممكن في شرط الوجود الفلسطيني، هو أن يكون هناك تناسب بين إنجازه لكيانه والقبول بقتله، وأنه كلما ازدادت حظوظ تحققه في الحياة، أو في الميدان البشري، عليه، في سخرية غير مسبوقة تاريخياً، أن يثبت قبوله لتلقي قتله. وأن عليه أن ينسى أنه يموت تحت وابل الحقد الإسرائيلي، حتى يبقى العالم سليماً في تحليله ومعادلاته، وفي شبكة قراءة ما يحدث في الشرق الأوسط، وخارج ذلك، ما عليه سوى أن يموت من دون إزعاج العالم!

لنكن واضحين في الرفض المطلق لمنطق باريس الحالي؛ من يستطيع أن يقول إن مواجهات الشعب الفلسطيني ستقف، اليوم، عند الحد الذي يطلبه العالم من الضحية، وهو الجلوس إلى التفاوض، بعد أن تكون الدبابات قد فعلت فعلتها في شوارع غزة؟ من يستطيع أن يتنبأ بأنه بعد الصواريخ، لن يبدع الفلسطيني إبداعات أخرى في القتال (والموت أيضاً)، أو لا يبدع ما يجمع بين الحجر وجسده وصاروخ غراد؟

إسرائيل لم تحترم الفلسطيني العاقل، الذي يحب السياسة، مرادفاً للحياة الممكنة في جحيم الأراضي المقدسة، ولم تستمع للذين تراجعوا كلياً عن خيارات المقاومة، ولا إلى الديبلوماسي الذي يحرص على الابتسامة أكثر من حرصه على بنود السلام، أو قرارات الشرعية الدولية لفائدة شعبه.

لنخرج من هذا الالتباس، الذي تريده الديبلوماسية المنحازة إلى إسرائيل، بجعل فصيل المقاومة الفلسطيني طريقاً إلى قتل الشعب الذي ينحدر منه. حماس، لا تريد نشر الإسلام في حدود 48، ولا تريد أن تقيم الجزية على يهود بني النضير في تل أبيب، ولا حتى أن ترسل آيات من الذكر الحكيم إلى أبناء مناحيم بيغين، لعلهم يتذكرون الكتاب. حماس، اليوم، في جحيم تصبه عليها دولة محتلة، وهي إلى جانب الشعب الفلسطيني في غزة، تسلم جسدها إلى القصف. وحماس لا تحلم بدولة المؤمنين في شوارع الشجاعية، بل بشارع لا تقلد فيه القنابل الأمطار الاستوائية، وشرفة على شاطئ لا يموت فيه الأطفال.

768EA96E-E08E-4A79-B950-D8980EE5911C
عبد الحميد اجماهيري

كاتب وشاعر وصحفي مغربي، مدير تحرير صحيفة الاتحاد المغربية، مواليد 1963، عمل في صحيفتين بالفرنسية، من كتبه "أوفقير .. العائلة والدم.. عن انقلاب 1972"، ترجم كتابا عن معتقل تازمامارت. مسوول في فدرالية الناشرين المغاربة.