هل تُراهن إسرائيل على الأجيال القادمة؟

هل تُراهن إسرائيل على الأجيال القادمة؟

24 ديسمبر 2020
+ الخط -

يصعب الجزم بأنه لا يزال في الوسع الاطمئنان إلى البديهيات التي غذّت علاقة أجيالٍ عربيةٍ سابقة بالقضية الفلسطينية، فقد جرت مياه كثيرة تحت الجسور الفلسطينية والعربية إبّان العقود الأخيرة، وشهدت المنطقة تحولاتٍ عميقةً بلغت ذروتها مع اندلاع ثورات الربيع العربي، وما أعقبها من تداعياتٍ دراماتيكيةٍ معلومة. وجاءت موجة التطبيع الحالية لتسائل هذه البديهيات، وتعيد تركيبها في ضوء خلط الأوراق المتواصل. 

وقد مثّل احتضانُ الوجدان الشعبي العربي القضية الفلسطينية، بالنسبة لإسرائيل، عقبة كبرى، حالت بينها وبين تنزيل أطوار كثيرة من مشروعها الرامي إلى الهيمنة على مقدّرات المنطقة. وعلى الرغم من أنها نجحت في إبرام اتفاقيتيْ سلام مع مصر والأردن، إلا أن الممانعة التي أبداها الشعبان، المصري والأردني، على أكثر من واجهة، أفرغت الاتفاقيتين مما كان حكام إسرائيل يطمحون إلى تحقيقه من إبرامهما، وكرّست رفض اعتراف الشعوب العربية بشرعية الكيان الصهيوني، واستمرارها في الانحياز للحق الفلسطيني.

بيد أن هناك حقائق لا ينبغي إغفالها بشأن تطوّر المجتمعات وانتقالها من طور إلى آخر. وقد يندرج نجاح إسرائيل في اختراق جدار الممانعة الشعبية، في بعض البلدان العربية، في هذا الصدد، فقد أفضى انحسار المد العروبي والقومي، والانسدادُ المجتمعي العام، وتراجع مؤسسات الوساطة، وارتفاع تكاليف الربيع العربي بعد الإخفاق في التحوّل نحو الديمقراطية، وتحالفُ الاستبداد الجديد مع محور الثورة المضادّة، والخرابُ الذي حل ببلدان مركزية (العراق وسورية)، وتفككُ النظام الإقليمي العربي، والانقسامُ الفلسطيني، ذلك كله أفضى إلى خلط الأوراق وتبدّل الأولويات بشكل غير مسبوق، إلى درجةٍ أصبح معها التمسّك بالحق الفلسطيني عنوانا لضيق الأفق والعجز عن التخلص من يوتوبيات حالمة عفا عليها الزمن.

بالتوازي مع ذلك، لم يتوقف العقل الإسرائيلي، لحظةً، عن دراسة مجتمعاتنا، ومحاولة فهم الديناميات المتحكّمة فيها وتفسيرها، في سعيه نحو اختراقها وتدجينها بما ينسجم مع مقتضيات المشروع الصهيوني. ومن ذلك توظيفُه ما حلّ بالجغرافيا العربية من أجل استهداف الموقف الشعبي من القضية الفلسطينية، من خلال رعايةِ سرديةٍ عربيةٍ تسوّق "عدم جدوى الاستمرار في رفض إسرائيل ومقاطعتها، بعد أن صارت واقعا سياسيا. وإذا كان من مسؤول عن ضياع الحق الفلسطيني، فهم الفلسطينيون الذين فرّطوا في أرضهم، ولم يستغلوا فرص التسوية الكثيرة التي أتيحت لهم. وقد آن الأوان ليبحث كل بلد عربي عن مصالحه، ولو بالتطبيع مع إسرائيل''.

يؤكّد تزامن شيوع هذه السردية عربيا، سيما على مواقع التواصل الاجتماعي، مع اتفاقات التطبيع التي استجدّت أخيرا، الطبيعةَ الاستراتيجية للمخططات الإسرائيلية على المدى البعيد. وضمن ذلك يندرجُ تشديدُ النخب السياسية والإعلامية الإسرائيلية على أن هذه الاتفاقات ستخدم الأجيال القادمة التي ستنعم بالسلام (كما يحدّده الجلاد)، ما يعني أن الأمر يتعلق باستثمارٍ ممنهجٍ في المستقبل، في سياق مشروعٍ متكاملٍ لتزييف الوعي، وقلب الحقائق، وابتلاع ما تبقى من فلسطين، وتدوير السردية الصهيونية، في أفق صناعة المواطن العربي الجديد الذي لن يجد أي حرجٍ في العيش تحت مظلة إسرائيل الكبرى. وبالطبع، لا يتأتّى ذلك من دون استهداف المنظومة الثقافية العربية، وفي مقدمتها مناهج التعليم التي يبدو أنها ستتحول، إلى مختبراتٍ مفتوحةٍ لتجريب الجيل الجديد من اتفاقات التطبيع، عبْر تطعيمها بـ"قيم الاختلاف والقبول بالآخر والتعايش''، كي تنسجم مع هذه الاتفاقات ومخرجاتها. وتدرك هذه النخب أن من شأن ضعف الحسّ النقدي في مناهج التعليم العربية أن يفتح مسالكَ كثيرة أمام إسرائيل، لتنزيل مخططاتها الرامية إلى الهيمنة على شعوب المنطقة، والتي تبدأ بشطب القضية الفلسطينية من الوعي العربي. ولعل ما بدأنا نشاهده أخيرا، على مواقع التواصل الاجتماعي، من فيديوهات وصورٍ توثق زيارة مواطنين عرب إلى فلسطين المحتلة في ضيافة إسرائيليين يضاعف المخاوف من أن لا يبقى ذلك شاذّا أو مستهجنا مع انصرام السنوات، سيما إذا ما أفلحت إسرائيل في استدراج أنظمةٍ عربيةٍ أخرى نحو التطبيع معها تحت مسمّياتٍ مختلفة.