هل بدأ اعتقال الفاسدين في ليبيا؟

هل بدأ اعتقال الفاسدين في ليبيا؟

26 أكتوبر 2020
+ الخط -

أنهت وزارة الداخلية بحكومة الوفاق الليبية جدلاً استمر طويلا، بعد قبضها على عبد الرحمن ميلاد، الملقب "البيدجا"، والذي يعد، حسب تصريحات الوزارة، من أخطر المطلوبين في قضايا الاتجار في البشر، وإطلاق النار على قوارب المهاجرين في عرض البحر، وكذلك تهريب الوقود، حتى أُطلق عليه "إمبراطور التهريب". وتباينت ردود الفعل حول العملية، وإن أعلن أغلبها، الدولية خصوصا، ترحيبا بالخطوة. وقالت بعثة الأمم المتحدة إلى ليبيا في بيان نشرته على موقعها إن "اعتقال البيدجا خطوة مهمة نحو ضمان العدالة لآلاف المستضعفين من الليبيين، والمهاجرين على حد سواء"، مشدّدة على ضرورة إجراء محاكمة عادلة له، ولغيره من المحتجزين لدى داخلية حكومة الوفاق. ورحبت السفارة الفرنسية في طرابلس بالقبض عليه، ووصفت الخطوة بأنها تنفيذ لقرارات القضاء الليبي، ولجنة العقوبات في مجلس الأمن. كما أثنت سفارة الولايات المتحدة على الاعتقال، وذكرت، في تغريدة لها على "تويتر" إن السفير تولارند اتصل بوزير الداخلية، فتحي باشاغا، لتهنئة السلطات الليبية. ووجد هذا الاعتقال الترحيب من بعثة الاتحاد الأوروبي.

هل سيكون "البيدجا" كبش الفداء الذي ستحقق عملية اعتقاله بعض المزايا، وترفع من رصيد من اعتقلوه؟

وعلى المستوى الداخلي، تفاوتت ردود الفعل أيضاً، ما بين مرحب بعملية الاعتقال، باعتبارها تسير في اتجاه فرض سيطرة الدولة، وبسط هيبتها، وتضع حداً لخارجين كثيرين عن القانون، والذين يمارسون ابتزازها، محققين من ذلك ثرواتٍ تجعلهم يتحكّمون في معظم حاجيات المواطن، والتي يتقدمها الوقود الذي يضطر المواطن الليبي، في الغالب، إلى شرائه بأضعاف سعره الأصلي، في وقتٍ تمر شاحنات التهريب أمام الجميع، من دون أن يستطيع أحد أن يحرّك ساكناً، وذلك لأن عمليات التهريب، سواء إلى تونس، أو إلى الحدود الجنوبية، تحميها مجموعات مسلحة، وأشخاص نافذون على غرار "البيدجا" و"قصب" و"العمو" وغيرها من أسماء يحفظها الليبيون، ويعتبرونها من أسباب معاناتهم. لكن آخرين أظهروا نوعاً من التحفظ على هذا الاعتقال، معتبرين إياه تنفيذا لأوامر سفارات غربية أعطت لنفسها الحق في التدخل في الشأن الليبي الداخلي، مستغلة ضعف الحكومة، ولا تتوانى عن فرض أوامرها وقراراتها، ضاربة عرض الحائط بكل القوانين واللوائح التي تُنظم العلاقات بين الدول، حيث تنقل سفراء هذه الحكومات وقناصلها إلى مختلف مناطق ليبيا، واجتمعوا مع عمداء بلديات ومدراء شركات ونشطاء، من دون إذن الحكومة، بل وأحياناً من دون علمها. وهناك من شككوا في العملية، من خلال توقيتها بعد لقاءات مرئية أجراها "البيدجا"، وزعم فيها إن لديه مستندات تُدين مسؤولين كثيرين، ومتورطين في عمليات التهريب المختلفة. ولقي القرار رفضاً من مليشيات الزاوية (ينتمي إليها المقبوض عليه)، والتي حشدت عددا كبيرا من آلياتها المسلحة غرب طرابلس، وأغلقت الطرق الرئيسية المؤدية إلى العاصمة طرابلس، قبل أن يتدخل بعضهم لإنهاء حالة الغضب وطمأنة المليشيات بأنه سيطلق سراحه، بعد التحقيق معه. 

الحكومة الليبية في طرابلس كانت، في وقت سابق، قد كلفت "البيدجا" بالإشراف على قوات خفر السواحل التابعة لها

وجدير بالذكر أن الحكومة الليبية في طرابلس كانت، في وقت سابق، قد كلفت "البيدجا" بالإشراف على قوات خفر السواحل التابعة لها، وخرج في أكثر من تسجيل مرئي، وهو يقود آليات عسكرية، متجهة من الزاوية (مسقط رأسه ومقر سكناه) إلى طرابلس، عندما حاول المتمرد اللواء خليفة حفتر دخولها في العام 2019، متوعدا حفتر وقواته بالهزيمة. وعلى الرغم من صغر سنه نسبيا (مواليد 1990)، إلا أنه يعتبر من الشخصيات المثيرة للجدل، والتي ارتسمت حول شخصيته علامات استفهام وأسئلة كثيرة لم تجد بعد إجابات شافية، فمن جهة هو مطلوب للنائب العام، ومن جهة أخرى هو آمر لخفر السواحل التابع للبحرية الليبية، والآن تعلن وزارة الداخلية القبض عليه، وأن عملية القبض تمت بناء على تحقيقاتٍ أجراها مكتب النائب العام، وأمرت بضبطه، بعد صدور نشرة خاصة من منظمة الشرطة الدولية (الإنتربول)، بالإضافة إلى طلب لجنة العقوبات في مجلس الأمن، حسب تصريح الوزارة. 

ويدعو إلى الاستغراب، أيضاً، أن الحكومة الإيطالية التي رحبت بالاعتقال سبق وأن استضافته في 2017، في مركز مينيو لاحتجاز المهاجرين في صقلية في مقاطعة كاتاينا، بناء على طلب المنظمة الدولية للهجرة، وضمن مشروعٍ مولته المجموعة الأوروبية (رحبت بالاعتقال أيضا). وذلك قبل عام من فرض مجلس الأمن عقوبات عليه. وعلى الرغم من أن وزارة الداخلية الليبية صرحت، بعد تلك الزيارة، أن الأوراق التي تقدّم بها "البيدجا" للحصول على التأشيرة الإيطالية مزورة، إلا أن الواقع يشير إلى غير ذلك، إذا ما عُرفت دقة إجراءات السفارة الإيطالية في طرابلس، الأمر الذي يجعل تزوير أوراق للحصول على تأشيرة دخول مستبعداً الى درجة كبيرة، خصوصا وأن تحقيقاتٍ أجرتها صحيفة أفينير ومجلة لكسبريسو أكدت أنه شارك في الندوة باسمه، وبصفته آمر خفر السواحل الليبية، وأنه يحمل رتبة عسكرية وتكليفا رسميا، وهو معروف لمخابرات دول الاتحاد الأوروبي. 

لماذا اختير هذا الوقت لاعتقال "البيدجا"، على الرغم من أن وضعه على قائمة المطلوبين كان منذ 2018؟

وملاحظ أنه، بعد الانتهاء من حرب طرابلس أخيرا، وانسحاب قوات خليفة حفتر إلى مدينة سرت، كثّف "البيدجا" ظهوره الإعلامي، سواء في مقاطع فيديو يبثها على وسائل التواصل الاجتماعي أو على برنامج "فلوسنا" على إحدى المحطات الليبية، ويتناول مظاهر فساد كثيرة، محاولاً التلويح بأن لديه مستندات عديدة تدين مسؤولين كبارا في الحكومة الليبية، متهماً إياهم بأنهم يتولون تهريب الوقود على مستوى عال، وأن لديهم علاقات بشبكة من المافيا الدولية المتخصصة في هذا المجال، وقد حققوا ثروات تقدر بالملايين من هذا النشاط، وأن كثيرين منهم يحاولون إزاحته من المشهد، لأنه، وبحكم عمله آمر خفر السواحل، استطاع الحصول على معلومات ودلائل ومستندات كثيرة تُدين هؤلاء، الأمر الذي جعلهم يتواصلون مع الأوروبيين لإصدار أمر القبض عليه، بل وصل الحال إلى اتهامه منظمات إنسانية تعمل على إنقاذ المهاجرين في عرض البحر بالمتاجرة بمآسيهم، ووصفهم بالسماسرة. كما سبق وأن شن هجوما غير مسبوق، في مقطع مرئي، تم تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي، على وزير الداخلية باشاغا، قائلا إنه يحاول القيام بانقلاب على رئيس المجلس الانتقالي، فائز السراج، مخاطبا إياه بالقول "عندما جئت وزيرا للداخلية، احترمناك، ولكن لن نسمح لك بعمل انقلاب على الحكومة، والزاوية، بل والمنطقة الغربية كلها ليست معك". 

الأسئلة المطروحة: لماذا اختير هذا الوقت تحديدا للقيام بعملية الاعتقال، على الرغم من أن وضع "البيدجا" على قائمة المطلوبين كان منذ سنة 2018؟ هل لهذه العملية، في توقيتها، علاقة بعمليات القبض التي نُفذت، أخيرا، طاولت مسؤولين عديدين في الحكومة بتهم الفساد؟ هل للمفاوضات في كل من جنيف وبرلين والمغرب علاقة بالعملية؟ هل تأتي عملية الاعتقال في إطار سعي وزير الداخلية إلى إبراز اسمه خليفة للسراج الذي اقترب موعد تقديم استقالته التي أعلن عنها؟ هل ستشهد ليبيا عمليات مشابهة للقبض على أسماء كثيرة وُجهت إليها اتهامات في أعمال، ومنها على سبيل المثال حرق مطار طرابلس؟ أم أن "البيدجا" سيكون كبش الفداء الذي ستحقق عملية اعتقاله بعض المزايا، وترفع من رصيد من اعتقلوه؟