مقاربات عزمي بشارة الجديدة في "مسألة الدولة"

مقاربات عزمي بشارة الجديدة في "مسألة الدولة"

16 أكتوبر 2023
+ الخط -

بأسلوبه المعتاد الذي يجمع بين التأريخ والتنظير الفلسفي من جهة، والتأطير السوسيولوجي وثنائية الواقع والتاريخ من جهة ثانية، ودلالة الألفاظ والمصطلحات من جهة ثالثة، يضعنا المفكر والباحث الفلسطيني، عزمي بشارة، في كتابه الصادر أخيرا "مسألة الدولة... أطروحة في الفلسفة والنظرية والسياقات" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت والدوحة، 2023)، وجها لوجه أمام إشكالية الدولة، مفهوما وواقعا وصيرورة تاريخية. ولم تكن مسألة الدولة غائبة في فكره، فقد تناولها في سياق مفهوم المجتمع المدني (1996) باعتبار أن شرطه التاريخي وجود الدولة وتمايزها عن المجتمع، ثم في تناوله الدولة الريعية في كتابه "المسألة العربية" (2007)، ثم تشكل الدولة على الصعيدين النظري والعملي ضمن صيرورة الصراع بين المجالين الزمني والروحي في أوروبا في الجزء الثاني من كتاب "الدين والعلمانية في سياق تاريخي" (2015)، ثم في ضرورة الدولة شرطا لعملية الانتقال الديمقراطي في كتابه "الانتقال الديمقراطي وإشكاليته" (2020).
ولذلك، يمكن اعتبار أطروحات بشارة السابقة في الدولة بمثابة المقدّمة الكبرى للكتاب الجديد، لأن قضايا العدالة والحرية والمساواة والطاعة والكرامة والحقوق والعلمانية... إلخ، أي قضايا الأخلاق والمجتمع، لا يمكن تناولها من دون وجود الدولة، خصوصا في العالم العربي وبلدان العالم الثالث، حيث يدعونا بشارة إلى التنبّه إلى أمرين: خطورة غياب الدولة ووهم الاستغناء عنها، وضرورة التمييز بين الدولة والحكّام ونظام الحكم.
منذ اندلاع ثورات الربيع العربي عام 2011 وما أدت إليه من انشقاقات هوياتية، أخذ بشارة، وهو المثقف الجادّ المنشغل بهموم العالم العربي، يهتمّ أكثر مما مضى بمسائل الدين والعلمانية والانتقال الديمقراطي والدولة، وكانت هذه القضايا الثلاث الكبرى مدار عمل استمرّ عشر سنوات. ومن بينها، تبرز مسألة الدولة أكثر حيوية، كونها أهم خلفيات تعثّر الانتقال الديمقراطي في بلدان الربيع العربي، حيث يرتبط الإشكال في الحالة العربية أولا بقضايا الشروخ الاجتماعية العمودية، وثانيا في وهن مؤسّسات الدولة غير الأمنية، وثالثا بتحوّل النظام الرئاسي المستبدّ إلى نظام شبه سلطاني في بعض الحالات، ما يعني الابتعاد عن مفهوم الدولة بالمعنى الحديث، ورابعا في ضمور المواطنة لناحية كونها الصلة بين الدولة والفرد، وخامسا في تآكل ثقافة الدولة المنطلقة من تصوّر وجود مصلحة عمومية تخدمها مؤسّسات الدولة، وتراجع ثقافة الخدمة العمومية لدى العاملين في هذه المؤسسات، وسادسا في قرن الأنظمة السلطوية الولاء للنظام السياسي القائم بالوطنية وعدم الولاء بالخيانة الوطنية، وسابعا في ضعف الإجماع على الدولة بوجود قوى وكيانات اجتماعية نافرة من الدولة المركزية.

الدولة مفهوم، وهذا صحيحٌ بمعنى أنها توجد في التصوّر، لكن الدول موجودة بالتأكيد، ففي الواقع توجد مؤسّسات، وهي كيانات واقعية

النقطة الرئيسية التي ينطلق منها الكتاب هي ضرورة تعديل التعريفات الرائجة للدولة، وذلك بالاستقراء من واقع الدول، حتى لا تكون الدولة (مفهوما) مجرّد فعل تنظيري منفصل عن الواقع، فالدولة مفهوم، وهذا صحيحٌ بمعنى أنها توجد في التصوّر، لكن الدول موجودة بالتأكيد، ففي الواقع توجد مؤسّسات، وهي كيانات واقعية. وتركيز بشارة على المفهوم وتجسيده الإمبريقي جعله لا يعير اهتماما باللفظ، بل يدعونا إلى تجاهله تماما، كونه لا يحمل دلالة علمية، فلا طائل من البحث في الدلالات الأصلية للفظ "دولة" في اللغة العربية والتي تفيد التغيير والتبدل، والمشتقّ من دالَ ويدول، ومقارنتها مع دلالة مفردة STATE التي تعني السكون والاستقرار، لأن الاختلاف في معاني الألفاظ لا يفسّر الفرق بين حال الدول العربية والدول الأوروبية. كما لم تعد تداعيات كلمة "دولة" العربية تثير معاني التغيير والتبدّل في أذهاننا، بل العكس تماما، حيث انقلبت الدلالة إلى عكسها. وينطبق الأمر على دلالة اللفظ باللغة الإنكليزية، فقد كان لفظ STATE يعني، في الأصل، حالة أو وضعا، وكلمات مثل مكانة STATUS، وطبقة اجتماعية وإقطاعة ESTATE مشتقّة منها، وقد تحوّل لفظ STATE ليعني دولة، إذ مرّ عبر STATUS، وهو اللفظ الذي ميّز مكانة الحكّام من المحكومين، ولا شيء هنا يشبّه بالسكون والرسوخ.

بين الفلسفة والنظرية السياسية 
ينبّه بشارة، بداية، إلى أهمية الفلسفة السياسية حين تناول مسألة الدولة، فعلى الرغم من أن هذه الفلسفة لا تنتج نظرياتٍ بالمفهوم العلمي للنظرية، إلا أنها تقدّم مقاربات عقلانية للقضايا والإشكالات تساعد في بناء نماذج عن البنى السياسية الأفضل من ضمن البحث الأخلاقي في الحياة الأفضل. ومن هنا، أي نظرية للدولة يجب أن تقع بين الفلسفة الأخلاقية والبحث العلمي التاريخي والإمبريقي، ومن دون تاريخ النشأة وطبيعة المجتمع ونظام الحكم، لا تعدو أن تكون نظرية الدولة سوى مجموعة قليلة من التجريدات العامة المستقرأة من الدول الحديثة.
يعرض الكتاب النماذج النظرية الرئيسية في الدولة داخل الفكر السياسي الغربي: الأول، نظرية الاختيار العمومي التي تعتبر أن الدولة مصدر انعدام الكفاءة، لأن دوافع موظفي الدولة هي مثل دوافع الناس في السوق قائمة على المنفعية. الثاني، النظرية الوظيفية التي تعرّف الدولة من منطلق وظيفتها التي تؤديها. الثالث، النظرية النخبوية، وتعني أن الحكم مخصوص بالنخب، لأن الشعب لا يحكم. الرابعة، مقاربات قانونية تعدّ الدولة جماعة سياسية ذات نظام قانوني.

في تحليله المقاربتين، الليبرالية والماركسية، حيال الدولة، يرى عزمي بشارة أنهما لم تعيرا اهتماما جذريا بالدولة

في تحليله المقاربتين، الليبرالية والماركسية، حيال الدولة، يرى عزمي بشارة أنهما لم تعيرا اهتماما جذريا بالدولة، فالليبرالية لا تميّز بين النظم السياسية والدولة في ذاتها، ولذلك يفضل منظّروها الحديث عن نظرية الدولة الليبرالية، في حين قامت المقاربة الماركسية على اندثار الدولة ونشوء مجتمعٍ لا طبقي. ... وهكذا، تعرّضت النظريات السابقة للنقد: اتّهمت الماركسية بالاختزالية، واتّهمت التعدّدية باختزال التنافس على سلطة الدولة في جماعات المصالح وحركات المجتمع المدني، وانتقدت الوظيفية البنيوية بافتراضها أن تطوّر الدولة والنظام السياسي تحدّدهما متطلبات المجتمع الوظيفية.
ويرى بشارة أن البحث في الدولة، بما هي عملية صعبة للغاية، فالدولة الحديثة هي نتاج صيرورة تمايزات في وظائف السلطة ومؤسّساتها، لكن هذه التمايزات كانت موجودة قبل تشكّل الدولة كيانا قائما بذاته، ويتصوّره السكان شاملا للحاكمين والمحكومين معا، وهذه التمايزات هي نتاج صيرورة تفاعل نظم الحكم وآليات السيطرة مع تطوّر المجتمعات، ومن دون البحث في النظم السياسية وآليات السيطرة المادية والرمزية وبنية المجتمع والظروف التاريخية لنشوء الدولة العينية ومدى استمرار تأثير ظروف النشأة في بنية الدولة، هي منظومة مقولاتٍ مترابطةٍ منطقيا، لكنها ضامرة. وبالتالي، يجب أن تجمع أي مقاربة نظرية مفيدة للدولة بين الاستفادة من عمل المؤرّخين بشأن نشوء الدول ونظريات علم الاجتماع والعلوم السياسية والقانونية. وعند هذه النقطة، يرفض بشارة مقولة إن عدم وجود نظرية ماركسية في الدولة يعني أنه لا يمكن تطوير نظرية في الدولة، ولكن النظرية العامة في الدولة لا يجوز فصلها عن متغيّرات أخرى، مثل المجتمع ونظام الحكم.
منظومة الدولة وفكرة الدولة هما بعدان للصيرورة نفسها، ويجب عدم فصلهما عند دراسة الدولة، بوصف الأول بعدا موضوعيا ماديا والثاني بعدا ذاتيا معنويا. ووظيفة تعريف الدولة، والكلام لبشارة، ليست فصل هذه العناصر، بل تأريخها أو "أرخنتها" عبر وضعها في سياقها التاريخي.

ينبّه بشارة إلى أن الإصرار على اعتبار العنف مكونا وحيدا فقط في تعريف الدولة الحديثة يُهمّش، إلى حد ما، شرعية الدولة المتمثلة في اعتراف الرعية بها

الدولة بين النشأة والتعريف
لا يقف بشارة كثيرا عند كيفية نشوء الدولة، أكانت لأسباب عقلانية أم نتيجة الحرب أو لأسباب أخرى، فما يهمّه هو الدولة أو كيان الدولة في سياقه التاريخي. وبهذا المعنى، ليست الدولة الحديثة دخيلة على التاريخ الإنساني، بل تطوّرت تدريجيا من ظواهر قائمة: سلطة، حكّام ومحكومون، عنف.
والناس لا يستعملون كلمة دولة ولا يسقطونها على التاريخ تعسّفا، وليس هذا الإسقاط برأي بشارة خاطئا، فالأساس المشارك العابر للمراحل التاريخية الذي يُتيح تسمية الكيانات السياسية السابقة دولا هو وجود حكّام يشرّعون، ومحكومين يُشرَّع لهم، وسلطة متغلبة تصكّ النقود وتجبي الضرائب، ويولد التفاعل بين هذه العناصر كيانا يتجاوز الجماعة العضوية، ونظاما من الطاعة والولاء يتجاوز مجرّد الخضوع للعنف الذي يُقصد به آنذاك العنف الجسدي المتميّز عن العنف في الدولة الحديثة، الناجم عن أجهزةٍ ومؤسّساتٍ وأيديولوجياتٍ تعمل على تذويت قمع بعض المزايا الإنسانية، مثل التوْق إلى الحرية والتفكير النقدي بالعلاقات الاجتماعية. وبالتالي، الفرق بين مفهوم الدولة واستخدام الكلمة الرائج في وصف كيانات ما قبل الدولة الحديثة ليس فرقا بين العلم والخرافة، المشترك هو وجود حاكمين ومحكومين، وليس احتكار العنف الشرعي، ففي حالاتٍ كثيرة، لم يكن في وسع السلطة احتكار العنف الشرعي، إذ امتلكته كياناتٌ اجتماعيةٌ مختلفة، ولكنها كانت تحظى باعتراف المحكومين وطاعتهم بالتغلب.
ينبّه بشارة إلى أن الإصرار على اعتبار العنف مكونا وحيدا فقط في تعريف الدولة الحديثة يُهمّش، إلى حد ما، شرعية الدولة المتمثلة في اعتراف الرعية بها. ولا يقصد التقليل من احتكار العنف، فهو أساسي، ولكنه لا يكفي بحد ذاته، إلا إذا كان شرعيا يجري بموجب قوانين وإجراءات مقبولة على مستوى المجتمع.
تختلف الدولة الحديثة عما سبقها في احتكار العنف، وانفصال المجال السياسي بوصفه مجالا قائما بذاته، ونشوء مؤسّسات دولة مركزية توحّد التشريع والقضاء والإدارة، فضلا عن انتقال السيادة من شخص الحاكم إلى مؤسّسات الدولة، فلم يعد الحكام بأنفسهم أصحاب السيادة.

حالما حسمت مسألة الحدود الترابية السيادية نحو الخارج، فإن الحدود في الداخل يُفترض أن تزال أيضا

السيادة والمواطنة
تُعرّف الدولة الحديثة وفق فرضية الكتاب بالسيادة، أي الحقّ الحصري في التشريع والولاية القضائية على إقليم ترابي محدّد سياسيا، ويتطلّب ذلك بالضرورة احتكار الاستخدام الشرعي للعنف، كما يتطلّب وجود جهاز بيروقراطي يدير الحكم والشؤون العمومية. ولكن هذه الخواص غير كافية لتعريف الدولة الحديثة وتمييزها عن نظم الدول القديمة، فإذا كان الحقّ الحصري في التشريع والاستخدام الشرعي للعنف سمتين موجودتين في الدولة القديمة، وإنْ بدرجات، فإن ما يميّز الدولة الحديثة هو المواطنة باعتبارها تجسيدا للسيادة. وهنا، يأخذنا عزمي بشارة في رحلة تنظير سوسيولوجية عميقة، فالبعد الإقليمي الترابي هو أحد مركّبي الدولة: الأرض والسكان، لكن البعد الترابي ليس هو الأهم في نظر بشارة الذي يخالف وجهة نظر منظّرين كثيرين لأسباب ثلاثة: 
الأول، الإثنيات والملل والقوميات تختلط وتتجاوز حدود الدولة، وإذا ما جرى تعريف الشعب بمجموع المواطنين، يكون محدّدا بالدولة ومُحدّدا لها، ومن شأن ربط المواطنة بالجماعات المذكورة أن يعطّل آليات عمل الدولة الحديثة، بوصفها دولة المواطنين التي تتعامل مع من هم ليسوا مواطنين أو مواطنين منقوصي الحقوق، بوصفه سلطة مسلطة عليهم وليست دولتهم.
الثاني، حالما حسمت مسألة الحدود الترابية السيادية نحو الخارج، فإن الحدود في الداخل يُفترض أن تزال أيضا. ويقصد بشارة أن الحدود الترابية مع الخارج تحوّل السكان إلى شعبٍ مؤلف من رعايا السلطة المباشرين من دون وسطاء، إقطاعيين أو شيوخ قبائل أو زعماء محليين أو رجال دين... إلخ، وهذه السلطة المباشرة على الفرد الخطوة الأولى نحو التحوّل إلى المواطنة.
الثالث، تقوم الدولة الحديثة على جسر الهوّة بين الحكّام والمحكومين، مع صعود المشترك بينهم، وليس مصدره انتماءهم إلى جماعة واحدة أو مكان واحد، بل عضويتهم في دولة، إنهم مواطنون.
يوجّه بشارة نقدا لبعض الفلاسفة ممن خلطوا بين العلاقة بين الدولة والقاطن فيها Residents والعلاقة بين الحكومة والخاضع لحكمها Subjects. ذلك أن علاقة الدولة تكون بالقاطنين عموما على أرضها لا بالمواطنين فحسب، والمواطن في دولة حديثة لا يسيطر على شؤون الدولة أكثر مما يسيطر عليها القاطن الغريب، ولا تختلف في ذلك الديمقراطيات بوصفها دولا عن الدول المحكومة بأنظمة سلطوية. وعند هذه النقطة، يجري التمييز الجوهري بين الدولة والسلطة، فمن دون انتقال المحكومين إلى مواطنين لا يمكن الحديث عن الدولة، وإذا لم يحدث هذا الانتقال سيبقى الوضع قائما بين رعية وسلطة حاكمة، لا دولة.

ليست الديمقراطية شرطا للمواطنة، التي هي وضعية الفرد القانونية في الدولة الحديثة، لكن المواطنة شرط الديمقراطية

ولا يمكن فهم الدولة المعاصرة من دون مكوّن المواطنة الذي أصبح الوجه الآخر للسيادة، فلم يعد فهم السيادة أنها السلطة العليا على إقليم وسكانه كافيا، كما أن مصطلحات غامضة، مثل سيادة الشعب، لا تفي بالغرض، لأنها لا تدخُل في تعريف الدولة، بل في التأسيس لطبيعة نظام الحكم.
وأيضا، ليست الديمقراطية شرطا للمواطنة، التي هي وضعية الفرد القانونية في الدولة الحديثة، لكن المواطنة شرط الديمقراطية. وبهذا يعني بشارة بالمواطنة العضوية في الدولة والمساواة القانونية في المكانة، وهي لا تفترض المساواة الاجتماعية ولا الديمقراطية، ولا حيوية المجال العمومي، لكنها تضع الدول على مسارٍ يقود إليها إذا توافرت الظروف والقوى الاجتماعية والسياسية التي تُناضل لتحقيق هذه الأهداف.
تجمع المواطنة المعاصرة في الدول المتطوّرة بين الحقوق المترتبة على العضوية في الدولة والحقوق الفردية الطبيعية والواجبات، والحقوق الفردية الطبيعية ليست محصورة في المواطنين، بل تشمل كل من يقيم على أرض الدولة، فهي غير مترتّبة على المواطنة في الدولة، بل على أن الإنسان إنسان، لكن المواطنة تميّز بين العضو في الدولة وغيره لناحية الحقوق السياسية وجزء من الحقوق الاجتماعية والمدنية، وأيضا لناحية بعض الواجبات. ومن دون المواطنة لا يمكن تعريف الدولة الحديثة. يقول بشارة "الدولة المعاصرة ذات السيادة هي دولة تمثل شعبا/ أمة نحو الخارج، وهي تسنّ القوانين، حيث تسري على مواطنيها كافة، وليس هناك دولةٌ لا تدّعي أنها تمثل الصالح العام وترعى المصالح العمومية وأنها تخدم مواطنيها. ويوشك هذا الخطاب أن يدخل في تعريف الدولة المعاصرة، لتمييزه عن واقع الدول القديمة، حيث وجد الحكام فيها ليحكُموا وعلى المحكومين الطاعة".

الدولة ونظام الحكم
ميّز عزمي بشارة بين شرعيتي الدولة (الحديثة) والحكام، لا لأن ذلك من المسلّمات، ولا لأنه يعكس الواقع في كل زمان ومكان، وهذا ليس صحيحا، بل لأسباب أربعة: إن التمايز بين شخص الحاكم وجهاز الحكم هو من مقدّمات الدولة الحديثة، إمكانية التمييز بينهما قائمة نظريا في مفهوم الدولة الحديثة ذاته، من المفروض أن يميّز الفاعلون السياسيون والاجتماعيون بين نظام الحكم والدولة إذا كان هدفهم تغيير نظام الحكم من دون المسّ بالدولة، أصبحت لدى المجتمع توقّعاتٌ من السلطة تختلف عن توقّعاته من الدولة.

نبّه عزمي بشارة إلى أن مسألة التمييز بين نظام الحكم والدولة ليست محصورة بالدول الشمولية، بل تشمل الدول الديمقراطية المتطورة أيضا

كانت واجبات الدولة، حين كان المقصود بها الحكّام، قليلة وغير قائمة على توقّعات أو الالتزام بتحقيق توقّعات منها لدى المجتمع، أما السلطات الحاكمة في العصر الحديث، فتدخل في علاقةٍ تفاعليةٍ مع المجتمع ضمن إطارٍ يجمعهما، هو الدولة، وعلى ذلك ثمّة توقعات من الناس والتزامات أيضا.
البيروقراطية المركزية والجيش النظامي والحدود الترابية الثابتة والمواطنة، هي العناصر الأساسية لاستمرارية الدولة وثباتها، على الرغم من تبدّل الحكام ونظام الحكم، في ظل وجود شرعية للدولة على مستوى الوعي الوطني، ويؤدّي هذا الوعي دورا مهما في مراحل التحولات الكبرى.
وفي مقاربة بدت جديدة كليا لكاتب هذه السطور، نبّه عزمي بشارة إلى أن مسألة التمييز بين نظام الحكم والدولة ليست محصورة بالدول الشمولية، بل تشمل الدول الديمقراطية المتطورة أيضا. في الأنظمة الديمقراطية، تنشأ من هذه التمايزات وحدة بين الدولة ونظام الحكم على مستوى أرقى، إذ يصبح تمييز نظام الحكم من الدولة في حالة الديمقراطية الليبرالية الراسخة متعذّرا، ليس لأنه لا يختلف عنها مفهوميا، فمقوّمات استمرار الدولة قائمة، بل لأن التمايزات الأساسية بين الدولة ونظام الحكم انتقلت إلى داخل النظام نفسه، فأصبح الاختلاف تمفصلا وتركيبا داخليا في النظام الديمقراطي، إذ ينشأ التمايز بين السلطات، أي مؤسّسات الحكم، ومؤسّسات الحكم وشخوص الحكام، ومؤسّسات الحكم السياسية ومؤسّساته القضائية والأمنية والمهنية وغيرها.
في حالة الدول الديمقراطية، تصبح مؤسّسات النظام الديمقراطي هي مؤسّسات الدولة في وعي الناس: البرلمان، الحكومة، القضاء، أجهزة الرقابة. أما في الدول الشمولية، فتبدو العلاقة معكوسة، ففي حين يصبّ التداخل والتركيب بعد التمايز في صالح المؤسّسات في حالة الديمقراطية، تتغلغل السلطة الحاكمة وأيديولوجيتها في النظام الشمولي في جميع المؤسّسات، وتعيد تشكيلها بموجب تصوّرات النظام، حيث يصعب تمييزها عن الحزب الحاكم أو الدكتاتور الفرد، وهنا تنتفي أية استقلالية للمؤسّسات الرسمية عن النظام، وللمؤسّسات الاجتماعية عن مؤسّسات الدولة.
يتطابق النظام والدولة في حالة الديمقراطية بسبب غنى التمايزات الداخلية والتركيب الذي يتخلّلهما، في حين يتطابق النظام والدولة في حالة النظام الشمولي، بسبب فرض الوحدة، وليس بسبب التمايز. وهكذا، فإن إمكانية التمييز بين الدولة ونظام الحكم قائمة في الحداثة، وهذا الفرق هو الذي يدفع الدولة السلطوية إلى السعي إلى المطابقة القسرية بينهما.