مذكّرة كريم خان وفنّ دسّ السمّ في العسل

25 مايو 2024
+ الخط -

للمرّة الأولى في تاريخها، تشهد المحكمة الجنائية الدولية ضجّةً إعلاميةً عند تقدّم الادّعاء العام بطلب مذكّرة اعتقالِ أشخاصٍ مُشتبهٍ فيهم. إذ أعلن المدّعي العام للمحكمة، كريم خان، في بيان صحافي مُطوّل، وفي مقابلة تلفزيونية مسجّلة مع شبكة سي أن أن الأميركية، أنّ مكتبه قد تقدّم بطلبات لإصدار أوامر قبض في ما يتصل بالحالة في فلسطين، شملت رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ووزير الأمن الإسرائيلي يوآف غالانت، بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية في قطاع غزّة، وأخرى شملت قائد حركة حماس في قطاع غزّة يحيى السنوار وقائد كتائب عزّ الدين القسّام، الذراع العسكرية لحركة حماس، محمد الضيف، ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية. تشكّل هذه الخطوة المفاجئة انقلاباً على بطء التحقيق ومماطلة خان، وعدم اكتراثه بضحايا الاحتلال الإسرائيلي منذ تقلّده المنصب في صيف 2021. ومن يعرف خان، ومراوغاته، وقربه من الطغاة والجناة أكثر من الضحايا، وخنوعه أمام الدول العظمى، أميركا خاصة، وانحيازه لإسرائيل، لا بدّ أن يتساءل عن سبب هذا التحوّل بعيداً عن الهدف المُعلن؛ خدمة العدالة الدولية، لأنّ قرار توجيه تهمٍ إلى قادةِ إسرائيل، وطلب اعتقالهم، قرارٌ سياسي لا يملكه كريم خان.

الإجابة نقلتها وسائل الإعلام الإسرائيلية، القناة 12 تحديداً، في الساعات الأولى التي تلت تسريب خبر احتمال طلب إصدار مذكّرات الاعتقال، التي تشمل نتياهو وغالانت، إذ أفادت القناة، نقلاً عن الصحافي الإسرائيلي البارز في "يديعوت أحرونوت"، أميت سيغال، بأنّ مصادرَ اسرائيلية مرتبطةً في المحكمة الجنائية أخبرته بأنّه يستحيل أن يجرؤ خان على هذه الخطوة من دون أن يحصل على الضوء الأخضر من واشنطن التي دعمت ترشيحه للمنصب، فسدّد لها أكثر من خدمة؛ من خلال وقف التحقيق في جرائم الجنود الأميركيين في أفغانستان، وامتثاله لأوامر واشنطن في قضية أوكرانيا، إلى حين حصوله على مذكّرة اعتقال ضدّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في وقت قياسي، ولقاءاته المُتكرّرة مع صناع القرار في واشنطن، واستضافته وفداً من الكونغرس في لاهاي لمناقشة أولوياته ونهجه في قضية أوكرانيا، وقضايا أخرى، مع العلم أنّ واشنطن ليست دولةً طرفاً في المحكمة، بل عدوّة لها.

يستحيل أن يجرؤ خان على خطوة طلب مذكرات اعتقال من دون أن يحصل على الضوء الأخضر من واشنطن التي دعمت ترشيحه للمنصب

جاء تحرّك خان في قضية الجرائم المُرتكبة في فلسطين المُحتلّة جاء خدمةً لأكثر من هدف، تتصدّره رغبة واشنطن في كبح تصعيد نتنياهو وغالانت في غزّة، وجهرهما عزمهما تحدّي بايدن، الذي يرفض اجتياحاً برّياً واسع النطاق لرفح، مفضّلاً القصف والتدمير عن بعد، إبادة "لايت"، إن جاز التعبير، لا تعرّض للخطرِ حظوظَ فوزه في الانتخابات الرئاسية المُقبِلة، ولا تعرّض بايدن ذاته لخطر المقاضاة بتهمة التواطؤ في جريمة الإبادة الجماعية. لقد تعدّدت أسباب انزعاج واشنطن من نتنياهو بعد أن حاول إقحام إدارة بايدن في حربٍ مباشرةٍ مع إيران، ترفض واشنطن التورّط فيها، للتركيز على أولويات سياستها الخارجية تجاه الصين وروسيا، إضافةً إلى وقوف نتنياهو في طريق صفقةٍ مع السعودية، بما في ذلك رفضه وقف إطلاق النار، وحلّ الدولتيْن.

من الواضح أنّ نتنياهو أصبح عبئاً وخطيراً على حكومة بايدن، حتّى استدعى ذلك توظيف المحكمة الجنائية الدولية ورقة ضغط لحمله على تغيير سياساته، ثم تهميشه سياسياً لفسح المجال أمام قيادة بديلة أكثر انصياعاً لأوامر واشنطن، مثل الجنرال بني غانتس، الذي لا يقلّ إجراماً عن غيره من حكومة الإبادة الحالية. سنرى خلال الأيام أو الأسابيع المقبلة مدى استجابة نتيناهو وغالانت لورقة المحكمة، بعد أن تُصدر في حقّهما مذكّرةَ اعتقال دولية، ويضاف اسمهما إلى قائمة المجرمين المنبوذين دولياً. على الأرجح، لن ترفض الدائرة التمهيدية الأولى في "الجنائية الدولية" هذا الطلب، ولن تتأخّر كثيراً في إصداره، في ضوء الزوبعة الإعلامية التي أحدثها خان، وتوظفيه دعم لجنة خبراء جُلّهم مشاهير بريطانيون بنفحة هوليوودية، تمثّلها المحامية أمل كلوني. الآن، وقد أصبح اثنان من أكبر رعاة الإبادة الإسرائيليين على وشك أن يصبحا مطلوبيْن للعدالة الدولية، لا يسعنا إلا الاعتراف بأنّ طلب مذكّرة توقيف ينطبق عليها وصف "ضربة معلم"، لأنّها ضربت عدّة عصافير بحجر واحد. بالإضافة إلى محاولة كبح جماح نتنياهو، ومن حوله، تسعى المُذكّرة إلى إنقاذ سمعة المحكمة ذاتها، التي ركّزت منذ إنشائها في 2002 على مقاضاة الأفارقة والعرب والروس، وجنسياتٍ أخرى، وحرصت على إبقاء الدول الغربية بعيدةً عن المساءلة، من خلال رفضها التحقيق في جرائم الجنود البريطانيين في العراق، وتعليق التحقيق في جرائم الجنود الأميركيين في أفغانستان. اليوم، يعتبر طلب مذكّرة اعتقال قادة إسرائيليين أول خطوة ضدّ أكبر حليف للدول الغربية، ما جعل خان يحاضر أمام العالم عن الاستقلالية والحياد، وعدالة دولية تساوي بين الجميع. بل لقد تحوّل لدى بعضهم إلى بطل القضية الفلسطينية، بعد أن رسّخت الخطوة كسر استثنائية إسرائيل، في حين أنّ الفضل يعود إلى الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا ضدّ إسرائيل في محكمة العدل الدولية، وحرّكت بموجبها مياه العدالة الراكدة، وألغت قاعدة الاستثناء الإسرائيلي بإخضاع كبار مسؤوليها للمحاكمة، للمرّة الأولى في تاريخها الاستعماري.

الفضل يعود إلى الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا ضدّ إسرائيل في "العدل الدولية"، وألغت قاعدة الاستثناء الإسرائيلي

على المدى القصير أيضاً، يُتوقّع أن يُشجّع طلب مذكرة اعتقال نتنياهو وغالانت محكمة العدل الدولية على حسم أهم نقطة خلاف بين قضاة المحكمة، الذين يطالب نحو نصفهم بإصدار أمرٍ مؤقّت يلزم إسرائيل بوقف عمليتها العسكرية، وانسحابها من غزّة، ومن شأنه، أيضاً، أن يعمّق عزلة إسرائيل دولياً، ويدعم الدعاوى التي رفعتها جهاتٌ مدنيةٌ في كلّ من أميركا وألمانيا وبريطانيا، من أجل حظر تسليح إسرائيل. إلا أنّ استعراضاً سريعاً لما غاب عن مذكّرة التوقيف يُبرز السمّ الذي دسّه كريم خان في هذا العسل كلّه؛ سمّ قد يسري في جسد القضية في المدَيين المتوسط والبعيد، ويمكن تلخيصه في أربع نقاط؛ أولها، غياب جريمة الإبادة الجماعية "genocide" عن لائحة التهم الموجّهة للطرفين، مستبدلاً إياها بتهمة الإبادة "extermination"، في مساواة تامّة بين الجرائم المنسوبة إلى كبار مجرمي دولة الاحتلال، وعناصر حركة مقاومة. من خلال هذه المراوغة البارعة، يسعى خان إلى إنقاذ نتنياهو وغالانت من تهمة ارتكابهما إبادة جماعية، جريمة الجرائم، في غزّة. فحسب تعريف نظام روما الأساسي "تشمل الإبادة تعمّد فرض أحوال معيشية، من بينها الحرمان من الحصول على الطعام والدواء، بقصد إهلاك جزء من السكان"، وترتكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي يستهدف المدنيين. خيط رفيع يميز الإبادة عن الإبادة الجماعية، ورد تعريفه في أحد الأحكام الصادرة عن المحكمة الجنائية ليوغسلافيا السابقة، بشأن الجنرال الصربي راديسلاف كرستيتش في عام 2001، الذي ثبت ضدّه ارتكاب جريمة إبادة جماعية في سربرنيتسا. وتجادل المحكمة في قرارها بأنّه "يمكن تمييز فعل الإبادة من الإبادة الجماعية لأنّه لا يُرتكب على أساس الانتماء القومي أو الإثني أو العرقي أو الديني لشخص ما، لا يستدعي وجود أيّ نية خاصة، أي القصد من إهلاك الجماعة كلياً أو جزئياً".

يُسدي خان خدمة رفيعة لإسرائيل وحلفائها بإبعاد تهمة الإبادة الجماعية عن القادة الإسرائيليين؛ جريمة تفترض ارتكاب عددٍ من الأعمال الإجرامية بنيّةِ الإبادة الكلّية أو الجزئية لجماعة ما، على أساس القومية أو العرق أو الجنس أو الدين. ومن خلال توجيه التهمة نحو الإبادة، بدلاً من الإبادة الجماعية، قد يؤثر في رأي بعض قضاة محكمة العدل الدولية، الذين يبحثون عن مخرج لتفادي إصدار حكم بالإبادة الجماعية على إسرائيل في قضية جنوب أفريقيا، التي تؤرّق تل أبيب وحلفائها.

الخطير، أيضاً، في مقاربة خان، أنّها لا تشكّل امتداداً للتحقيق الذي أطلقته سلفه المُدّعية الغامبية فاتو بنسودا في ربيع 2021، واضعة القضية في سياق الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وطلب التحقيق في جرائم ترتبط بجوهر طبيعة النظام الاستيطاني، بما في ذلك جريمتيْ الاستيطان والفصل العنصري (الأبارتهايد) المرتبطتيْن بسياسات دولة الاحتلال، بما لا يحتاج تحقيقاً على الأرض، ذريعة خان المُثلى في عدم التقدّم في هذا التحقيق. المُدّعي البريطاني الأحمدي سيحاول إبقاء القضية بعيداً عن سياق الاحتلال، لينزع عن القادة الفلسطينيين حقّ المقاومة المسلّحة، الذي كفلته عديد من قرارات الجمعية العامة للأمم المتّحدة، واتفاقية لاهاي، واتفاقية جنيف الثالثة.

يسدي خان خدمة رفيعة لإسرائيل وحلفائها بإبعاد تهمة الإبادة الجماعية عن قادتها

أما أخطر سمّ مدسوس في القضيّة، فيتعلّق بإمكانية تنازل المُدّعي العام لإسرائيل عن القضية، متى أعلنت السلطات الإسرائيلية عزمها مقاضاة نتنياهو وغالانت أمام محاكمها، لمواجهة التهم ذاتها، بما أنّ نظام روما الأساسي يقوم على منح أولوية التحقيق للمحاكم الوطنية القادرة والراغبة في مقاضاة رعاياها، وفقاً لمبدأ التكامل. وقد انتقد وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن المحكمة بشدّة، واتهمها بأنّها "أقحمت نفسها في شؤون دولة تتمتّع بنظام قضائي ديمقراطي شرعي مستقلّ"، فأجاب مكتب الادعاء في المحكمة أنّ خان لم يتلقَّ معلومات من إسرائيل تثبت وجود إجراءات قانونية حقيقية للتحقيق في الجرائم المذكورة، ملمّحاً إلى انتظاره إشارةً من تل أبيب لتنازله عن الادعاء.

في ضوء فرصة التحايل على العدالة الدولية التي يوفّرها نظام روما للدّول، يواجه الفلسطينيون السيناريو الأسوأ، الناتج عن عدم توفّر فرصة تطبيق مبدأ التكامل بشأن قادة "حماس"، الذين قد يصدُر في حقّهم أمرٌ بالاعتقال. فبعد أن بادر الفلسطينيون، بموافقة قادة "حماس"، باللجوء إلى المحكمة من أجل تحقيق العدالة، يجدون اليوم أنفسهم في قفص الاتهام، في قضية يساوي فيها خان بين كبار المجرمين، قادة دولة احتلال نووية، وحركة مقاومة شعبية، بين قتل مئات الإسرائيليين وعشرات الآلاف من الفلسطينيين. وبحكم انحيازه لإسرائيل، يفوق عدد المُتّهمين الفلسطينيين عدد المتهمين الإسرائيليين، ويوجّه خان للسنوار وللضيف ولهنية ثماني تهم، مقابل سبع لنتنياهو وغالانت، بما فيها خمس تهم بارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية موجّهة لـ"حماس"، مقابل ثلاثٍ فقط تلاحق الطرف الإسرائيلي. صحيح أنّ وضع نتنياهو وغالانت على قائمة كبار مجرمي القرن الحادي والعشرين حدث يستحقّ التقدير، رغم تأخّره، لكنّه لا ينبغي أن يُبيّض وجه خان وعدالته السّامّة.

D3DB8A51-4A38-4CFE-8FF7-F3890E6C424F
D3DB8A51-4A38-4CFE-8FF7-F3890E6C424F
عائشة البصري
كاتبة وإعلامية مغربية، ناطقة سابقة باسم بعثة الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة في دارفور وحائزة على جائزة رايدنهاور الأمريكية لكاشفي الحقيقة لسنة 2015.
عائشة البصري