ما بعد النظام العربي الرسمي

ما بعد النظام العربي الرسمي

10 فبراير 2022
+ الخط -

لا أريد أن أدّعي أنني كنت "أعرف" أن الطفل المغربي المرحوم ريان لن يخرج من جبّه حيا، ولكنني كنت أشعر بأن خروجه، بعد أن مكث خمسة أيام تحت الأرض، وهو على قيد الحياة، وهو ابن خمسة أعوام، ضرب من المستحيل. أما ما كنت على يقين منه فهو أن تلك الهبّة العربية، الداعية لنجاته، إنما كانت نداء عميقا أصدره الضمير الجمعي العربي لنجاته هو من "بئر" الخراب الذي وقع فيه.

الحرارة والشغف واللهفة والحرقة التي اجتاحت ملايين العرب لإنقاذ ريان من محنته كانت تعبيرا عن شعور العقل الجمعي الباطن لهذه الأمة بالرغبة من خروجها من جبّ العبودية والفقر والاضطهاد والظلم وخلاصها من محنتها. وكالعادة فقد خُذلت هذه الأمة، وخرج ريان ميتا. ما جرى هو تعبير فظ على انهيار النظام العربي الرسمي وتداعي أركانه، ما يفضي إلى السؤال المركزي: ماذا بعد هذا النظام؟ ما شكل الأوضاع العربية بالمجمل، بعد أن تكتمل عملية الانهيار؟

لن تتم عملية الانهيار فجأة، وبرمشة عين، فالأبنية القديمة تبدأ بالتصدّع أولا ثم تتداعى شيئا فشيئا، ثم تنهار بأكملها، وليس بوسع أحد أن يتنبأ متى تتحول هذه الأنظمة المتهالكة فاقدة الشرعية والديمومة إلى خراب، غير أن ما يبعث على الأسى هنا أن أرباب هذه الأنظمة لم يزالوا على غيهم القديم في اجترار خطابات الطمأنة وبيع الآمال الكاذبة، أملا كما يبدو في "شراء الوقت" ومد فترات جلوسهم على صدور البلاد والعباد رغما عن إرادتهم، وإمعانا في قهرهم ومص دمائهم.

حجم الخراب الذي أحدثه دكتاتوريو العرب كان من الضخامة والجنون والتوحش بحيث يصعّب من عمليات إعادة البناء

مع هذا، لا يملك أحد من المطلعين على بواطن الأمور وظواهرها في دنيا العرب ذرّة شك واحدة في أن العمر الافتراضي للنظام العربي الرسمي انتهى منذ زمن ليس بالقريب، خصوصا بعد أن قرر أربابه رمي ورقة التوت التي كانت تستر عوراتهم بإلقاء أنفسهم في أحضان عدو الأمة الأبدي، وفتح أبواب بلاد العرب وسمائها لجلاوزته ومجرميه ورهن مستقبل هذه الأمة بيديه، والدخول في شراكةٍ "علنية" معه، بعد طول شراكةٍ سرّية، وعلاقات "سفاح" أنتجت طبقةً من المنتفعين الذين يتبادلون المناصب العليا في ما بينهم. ليس هذا فقط بل بإصرارٍ غريبٍ على سياسة استغباء الشعوب وبيعهم لغة متهالكة فاقدة أي مصداقية، واستمرارهم في استعمال المفردات المهترئة نفسها، التي تدّعي الحرص على مصلحة الناس ورعايتها، وهم مستمرّون في سرقة قوتهم ونهب مقدّرات البلاد، وانتهاج سياسات الإفقار والجباية والتمتع برفاهية باذخة من دون نظر إلى المآل الذي وصل إليه سواد الشعب العربي من فقر وقهر، ورافق هذا كله طبعا الاستمرار في سياسات تكميم الأفواه ومصادرة حق الناس في التعبير عن أنفسهم، وزجّ خيرة الخيرة من علماء العرب وأحرارهم ومفكريهم ونخبهم في "بئر" لا قرار له (أين منه بئر ريان!) يدعى زورا وبهتانا بالسجن، وهو مقبرة للأحياء يعاني فيه الأحرار من موت بطيء وتجويع وسوء معاملة، الداخل فيه مفقود والخارج منه (إن خرج) مولود، ولكن بعلل وأمراض تفضي به إلى الوفاة ولو بعد حين.

نحن اليوم كما يبدو نعيش الحلقة الأخيرة من مسلسل عربي تقليدي، حيث تتسارع الأحداث على نحو يناقض المطّ والتطويل في الحلقات الأولى، أو الجزء المتقدّم منه، ويبقى السؤال الكبير والمقلق عن ماهية الحال التي سيكون عليها وطننا العربي الكبير بعد الانهيار الكبير المنتظر للأنظمة، خصوصا وأن سياسة "جزّ العشب" التي انتهجتها الأنظمة جرّفت أو كادت حياة الأمة من خيرة أبنائها، ومن هم قادرون على الجلوس في قمرة الربّان. ولا يعني هذا بالقطع خلو الساحة من هؤلاء بالكامل، ولكن حجم الخراب الذي أحدثه دكتاتوريو العرب كان من الضخامة والجنون والتوحش بحيث يصعّب من عمليات إعادة البناء، ولكن يبقى الأمل قائما في لملمة الأمة جراحها، والتقدّم في ترميم جسدها المثخن بالجراح.

من الصعب على أي مستشرفٍ لمستقبل هذه الأمة أن يضع النقاط على الحروف، ويرسم سيناريو المستقبل بدقة، ولكن ما هو مؤكّد أن دوام حال الأمة على ما هي عليه غدا ضربا من المحال، ويبدو أننا على أعتاب مرحلةٍ شديدة القسوة والتعقيد، فما يعقب عمليات الانهيار عادة سيادة مرحلة من الفوضى القاسية التي ستكلف الأمة عددا لا يحصى من الخسائر في الأرواح والممتلكات، وهي كلفةٌ لا بد من دفعها للعبور إلى برّ الأمان.