ماذا يعني أن الإسلام فوق المسلمين؟

ماذا يعني أن الإسلام فوق المسلمين؟

28 سبتمبر 2021

(فريد بلكاهية)

+ الخط -

على الرغم من أهمية تحرير هذه المسألة في فهم أزمة حاضر العالم الإسلامي، وخصوصا بعد رحيل الاحتلال وعودة الأمم الشرقية إلى النظر في واقعها الحياتي والاجتماعي، وعلاقته بتاريخها الروحي والحضاري، إلا أن السؤال ظل معلقاً لدى الغالبية العظمى، ونخصص هنا الوطن العربي، لكونه في الأصل المركز الحاضن لتلك الأمم القومية المتعدّدة، فَدَمَجها في أمة الرسالة الإسلامية، وإن بقيت روابط قومياتهم باقيةً فهو أمرٌ طبيعي، يندرج تحت أصل فلسفة الرسالة في بلاغها الأول. حيث إن العرب والكرد والفرس والترك، ثم هنود آسيا وشرق آسيا، والأمازيغ في المغرب العربي، والتداخل مع الأمم الأفريقية، وآخرين ممن دخلوا في الرسالة الإسلامية أفواجاً، حين بلاغ الرسالة الأولى لهم لم تفرض عليهم مشارطة للتخلي عن أممهم القومية، فهذا في الأصل مخالفٌ للفطرة البشرية، وبالتالي مخالف للرسالة الإسلامية.
وانظر هنا هذا المقصد العالي في أفقه الإنساني الحضاري، فحيث كانت الفطرة كان الإسلام، وحيث نُقضت الفطرة حضر الإسلام لتصحيحها، عبودية الناس للمستبد، حصر الأموال لدى الطبقات البرجوازية من دون معيشة البشر، إيقاد الحروب بدل إطفائها، تفكيك الأسرة وجعل الأبوين مكائن توليدٍ لا قيمة لهم، والأرحام روابط لا معنى لها، صناعة مواجهة عدمية بين المرأة والرجل. وخطف الذكور نحو التأنيث والإناث نحو التذكير، ودمجهم بنزواتٍ جنسيةٍ لإيجاد أسر مزعومة، وقهر الطفولة لترويج المثلية ضد أسرهم واستقرار أرواحهم، بدلاً من تطابق المتعة الطبيعية مع التوالد الذي وجدت به الأسرة البشرية، بل انظر إلى قانون الطبيعة في الإسلام في النهي عن التبذير والإسراف في الماء واللطف بالشجر والحجر والرفق بالحيوان.

مهرجانات العنصريات المتعدّدة تقوم أسواقها وتنفضّ في ديار المسلمين، بل وهناك من جعل الدين مطيةً لعنصريته أو لقوميته

ستدرك تماماً هنا أن الإسلام دين فطري، فماذا يعني؟ يعني أنه دين إنساني يمثل القمة في التزاوج بين الروح وأخلاقياتها، وبين الذات البشرية والطبيعة من حولها، وكأنك تستمع إلى نوتةٍ موسيقيةٍ محكمة تدور عوالم الرؤية من حولها، ولكنها رؤية متطابقة مع العالم الكوني.
حسناً.. هل دخول تلك الأمم إلى الدين الذي حاربه الاستشراق والنطاق الكولونيالي مئات السنين، وظل ثابتاً يسري في جسد الأمم الفقيرة والمحرومة والغنية، كان ثباته فقط للتوارث، أم كان يربطه ذلك العزف الروحي في وجدانهم. ومؤكّدٌ أن أقواما خرجت من الإسلام نحو المسيحية أو غيرها، قبل موجات الإلحاد الأخيرة التي أيضاً تستخدمها فلسفة المركز الرأسمالي، ولكن بأدوات حديثة.
إذن، كان من المفترض ألا يبقى هذا الجسم متماسكاً بين المسلمين، كظاهرة فارقة، لضعف دينهم، بحسب معطيات الحملات التي واجهتهم، وبحسب سوء ما تعكسه كثيرٌ من صور مجتمعاتهم عن الإسلام. ويكفيك في هذا أن مهرجانات العنصريات المتعدّدة تقوم أسواقها وتنفضّ في ديار المسلمين، بل وهناك من جعل الدين مطيةً لعنصريته أو لقوميته، وهو يُمثل أسوأ صور الجاهلية في الاعتداء على كرامة الإنسان، والبغي على مصالح المسلمين.

فلسفة التشريع في ذاتها أفقٌ عابر للزمن، عابر للجغرافيا الاجتماعية والطبيعية، متكيفة مع حالة الأمم في أقوامها، إلا ما كان مناهضاً لفطرتها

هنا يقفز لدينا أمر مهم لحبكة القصة القديمة الجديدة، وهو جوهر السؤال، في أزمة المسلمين بين رسالة التشريع ومشهد التطبيق، ففلسفة التشريع في ذاتها أفقٌ عابر للزمن، عابر للجغرافيا الاجتماعية والطبيعية، متكيفة مع حالة الأمم في أقوامها، إلا ما كان مناهضاً لفطرتها. ولذلك اعتبر الفلاسفة المسلمون أن الإيمان الروحي شأنٌ أخلاقي، وجوهرٌ عقلي بدلائل الحكمة، فتسليمك بالخالق منسجمٌ مع شواهد كونه اليقينية، والنبوات مفسّرة لتاريخ العالم والخالق، وجوهر المعتقد واحدٌ في كل النبوات. يبقى هنا عناصر تأصيل الرؤية الكونية في دورات الحياة البشرية المتعدّدة، وهي في التاريخ الاجتماعي للمسلمين، بل والعلمي والتعايشي متعدّدة، من دون إسقاط أصول الرسالة وجوهر بلاغها.
سنجد هنا سجلاً ضخماً من الانتهاكات الكبرى لقيم الرسالة، بل وأركانها العظمى في حماية العدالة والحقوق، وفي الدفاع عن المرأة في نصوص الإسلام، تؤكد أصل الشراكة ليس بهدف تكييف تقدّمها الحقوقي بناء على مظالم طارئة، بل كل رحلة الإنسان الموحدة بين الرجل والمرأة، فهي أصل التكون، ومن ثم وُضعت الوصايا وشدّدت على رعاية المرأة، كون أن العاطفة لديها والتكوين الجسدي، يعطي فرقاً مادياً لدى الرجل، فحذر النص من بغيه.

كان الظلم بيّنا في نزع حق الأمة في الحكم العدل الرشيد، بناء على قواعد العدالة في ذلك الزمن وآلياتها

كارثة هذه الانتهاكات وقعت مبكراً في تاريخ الأمة، بسبب معين وليس مجهولا، ومن الجور على الإسلام، كما يردّد بعض شيوخ الدين، القول إن ذلك مجرى طبيعي للتجاوز يشمل البغاة والمنصفين، ومن ثم يجب السكوت عنه! كلا .. لم يصمت الإسلام عنه. فكان الظلم بيّنا في نزع حق الأمة في الحكم العدل الرشيد، بناء على قواعد العدالة في ذلك الزمن وآلياتها. وكانت النصوص تشير إلى هذا البغي لتجريمه، متى ومن أيٍّ كان يقع، ثم تواطأت مجتمعات من المسلمين في بغي آخر، على سبيل المثال نموذج المرأة، حين أُقرّت نظم جاهلية تنزع حقها وتُحاصرها.
وكما تواطأ بعض الفقهاء في التعدّي على حريات الأسرى وكرامتهم وضمان مسار لمكاتبتهم للتحرير، بحسب النصوص حتى يخرجوا من الأسر، فتم تجميد أحكام الحرية، وسوّقت العبودية بعد ظاهرة الأسر، من دون التدقيق في مشروعية الحروب، ولا نوايا أولئك السلاطين التي كان جزء منها مطيةً لأطماعهم أو صراعاتهم الشخصية والقومية، وليس لنشر الإسلام.
هنا يبرز لنا جلياً هذا الفرق، وكيف نفهم أن الإسلام فوق خطايا النظام الاجتماعي والسياسي الذي حدث في تاريخ المسلمين، وأن النص والتشريع لم يُزكّيا هذا التاريخ، بل حذّرا من فتنه المدلهمة، واعتبرا ذلك إنذاراً لهم في آيات صريحة متعاقبة في القرآن الكريم، فأين الحجّة هنا لمن يبحث عن حقيقة الإسلام وتاريخه في الحياة الإنسانية؟ هل هو البغي والتخلف عن الرسالة، أم الرسالة والتطبيقات الرشيدة لها، والتي ظلت تجمع هذه الأمم من الأسرة البشرية حتى اليوم؟