ماذا أتذكّر من عبد العزيز الفارسي؟

ماذا أتذكّر من عبد العزيز الفارسي؟

01 اغسطس 2022
+ الخط -

"إن أعادوا لك المقاهي القديمة فمن يعيد الرفاق"... محمود درويش
خصّصت مجلة نزوى في عددها الجديد 111 ملفا عن القاص العُماني عبد العزيز الفارسي، الذي فارق دنيانا عن عمر مبكر، وما تزال آثار رحيله تولد أشكالا تعبيرية متفرّقة سواء حول شخصه أو كتاباته.
أجتهد في شحذ الذاكرة للوصول بها إلى مرافئ أول لقاء جمعني بعبد العزيز. الصور تتداخل وتخف وتطير، إن لم تكن محفوفة بثقل الشعور. الشعور يثبت الصورة، إنه يشبه الثقل الذي يلقيه البحار خارج القارب ليثبته ساعة الرسو. ها هي اللحظة تأتي غير خلوة من هذا الشعور. كان ذلك في مقهى الواحة على شاطئ القرم في مسقط، المقهى الذي تغير اسمه مرارا. وكان بالصحبة أصدقاء، أتذكّر منهم علي الصوافي وخالد العزري ويحيى سلام المنذري، وطبعا عبد العزيز الذي ألتقيه أول مرة، وكان طالبا في كلية الطب في جامعة السلطان قابوس. ولكن ما هو مصدر هذا الشعور أو الثقل الذي أوقف الصورة؟ السبب ربما كان تركيزي على تدفق كلام عبد العزيز المشوب بحماس نقدي للأوضاع كان يحفنا، مع شيء من التوجس والريبة وانخفاض الصوت حسب حرارة الموقف وحساسية الموضوع. آذاننا وألسنتنا كانت تتحوّل وقتئذ إلى رئات للتنفس في ساعات المقاهي تلك. وهذه الساعة الأولى مع عبد العزيز لا بد أنها تنتمي إلى أكثر من ربع قرن من كتابتي هذه الأسطر.
قريبٌ من ذلك الزمن كانت قراءتي مجموعته الأولى "جروح منفضة السجائر"، أتذكّر أني قرأتها في مطعم ومقهى اسمه البطريق بسوق السيب. لم يعد موجودا. تلمست حينها مقدرةً على التقاط الهامشي، والتجريب اللغوي، عمّقت تجربته القصصية المتميزة مجموعته "العابرون فوق شظاياهم"، بدا فيها وكأنه يوثق وهو يتذكر وجوه قرية شناص، فضاء مولده ومسرح طفولته، قبل أن يدفنهم النسيان. تعدّدت المصادفات والجلسات والقراءات. وهو (كما هو)، منذ لقائي الأول به، شعور يتكثف ويكبر ويتمدد. هناك الحماس والميل إلى القفشات، مع تواضع ملحوظ وحس إنساني وإقبال متدفق على الحياة والمغامرة وانفتاح شهي على نسج العلاقات بأنواعها.
لم تغر الرواية الفارسي كثيرا، رغم تميز محاولته الأولى "تبكي الأرض يضحك زحل" بصعودها إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر في دورتها الأولى، بل بدلا عن ذلك، ظلّ يصقل خطه القصصي، سيظهر ذلك بوضوح في مجاميعه القصصية، مثل "رجل الشرفة" 2017 و"الصندوق الرمادي"2012، وقبل ذلك "وأخيرا استيقظ الدب" 2008.
الصديق حمود الشكيلي، وتماشيا مع تقدم وسائل الاتصال، أسّس "جروبا" هاتفيا في "واتساب"، جمع فيه أصدقاء من كتاب القصة القصيرة في عمان. كان "جروبا" تفاعليا، ولكن عبد العزيز، بحكم انشغالاته الطبية (المفهوم جدا)، قليل المشاركة، وينقطع أحيانا أشهرا عن قراءة الرسائل، ولكنه، بين فترة وأخرى، يكرمنا برسالة أو تعليق بسيط، وأحيانا برسائل متتابعة، تكون، في العادة، نتيجة قراءته إصداراً يكون غالبا من تأليف أحد أفراد "الجروب". وبذلك يترك انطباعه وفرحه ثم يختفي. وانطلاقا من هذا الجروب، كانت تجرى لقاءات عادة تكون في مقاهي أو مطاعم في العاصمة مسقط أو بيت الصديق حمود الشكيلي، وكان عبد العزيز رغم كثافة مشاغله بين الحاضرين.
لقاءات أخرى كذلك جمعتني به في بيت الصديق الخطاب المزروعي في مسقط. لم يكن مكوثه القصير خاليا من اتصالات طارئة من المستشفى، وهي اتصالاتٌ تأتي بهدف الاستشارات الطبية، وكان من جلسته يستغرق في شرح طرق للعلاج، وأحيانا يضطر إلى المغادرة السريعة، انطلاقا من هذه الاتصالات الاستشارية، على أمل العودة في وقت آخر.
كان التوتر ملحوظا في حياته، وهو توتر تدفع إليه طبيعة مهنة الطب التي تميز فيها، وأخلص لها. ستجد كثيرين يتحدّثون عن جانب إنساني عال في تعامل عبد العزيز مع المرضى. أتذكّر حين مرض والدي مرضه الأخير، كان عبد العزيز ضمن المشرفين الدؤوبين على متابعة حالته حتى وافته المنية.
ومنذ فترة قريبة، كنت في زيارة لخالي في ولاية بركاء. وبالمصادفة، حين جاء ذكر عبد العزيز، تدفق الخال في ذكر خصاله، وكأنه يعرفه شخصيا. وربما هذا حال كثيرين يصعب حصرهم، قَرُبَت المسافة، وتداخلت المشاعر بينهم وبين طبيبهم.
والآن، بعد أن رحل عبد العزيز، في أي مجلس أو ملتقى، ما أن ينعطف الحديث فجأة إلى ذكره، إلا وأجد من يستحضر موقفا أو لحظة كان للمرحوم فيها دور إنساني مؤثر، أو ثقل يثبت الذكرى.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي