قضايا المجمع الانتخابي في الرئاسيات الأميركية ومشكلاته .. ملاحظات وآراء
ليست الديمقراطية فريدة في الولايات المتحدة، لكن الولايات المتحدة فريدة في ديمقراطيتها. يمكن لمرشح رئاسي أن يفوز بانتخابات الرئاسة ويصبح رئيسا للبلاد، على الرغم من أنه لم يحصل على أغلبية أصوات الشعب. كيف يمكن لعملية ديمقراطية أن تنتهي إلى نتائج تخالف الإرادة الشعبية؟ لا يمكن فهم ميكانيزمات نظام الانتخابات الرئاسية الأميركية بالنظر إلى آلياتها العملية فحسب، بل يجب الوقوف على خلفياتها السوسيوسياسية التي أدت إلى مثل هذا النظام.
الآلية الانتخابية
تجري انتخابات الرئاسة الأميركية يوم الثلاثاء الكبير، وهو الثلاثاء الأول الذي يلي أول يوم اثنين من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني كل أربع سنوات (سنة زوجية). واختير هذا اليوم لأسباب دينية واقتصادية، فهو يأتي بعد انتهاء المواطنين من تأدية فروضهم الدينية في الكنائس يوم الأحد، ويأتي في منتصف الأسبوع، بما لا يؤدي إلى تعطيل المصالح الاقتصادية للمواطنين.
لا ينتخب المواطن الأميركي المرشح الرئاسي بشكل مباشر، بل عن طريق وسطاء الولاية (ناخبو الولاية) في المجمع الانتخابي (ELECTORAL COLLEGE) الذي يضم 538 ناخبا: 435 عدد أعضاء مجلس النواب، مائة عدد أعضاء مجلس الشيوخ، ثلاثة ناخبين عن مقاطعة كولومبيا (واشنطن D.C). وبحسب التعديل الثالث والعشرين للدستور، عوملت مقاطعة كولومبيا معاملة الولاية، فمنحت ثلاثة مقاعد بما يساوي العدد الذي يحق لأقل الولايات عددا للسكان (ولاية وايمنغ).
في كل ولاية ينتخب المواطنون ممثلين للولاية في المجمع الانتخابي المنوط به انتخاب الرئيس، ويجب أن يكون عدد الممثلين المنتخبين للمجمع الانتخابي مساويا لعدد ممثلي الولاية في مجلسي النواب والشيوخ مجتمعين. على سبيل المثال، تمتلك ولاية كاليفورنيا 55 مقعدا في مجلس النواب والشيوخ (عدد مقاعد كل ولاية في مجلس النواب تتحدد بالثقل السكاني، أما عدد مقاعد مجلس الشيوخ فهي مقعدان لكل ولاية بشكل ثابت). ولذلك، يحق لمواطني ولاية كاليفورنيا انتخاب 55 ممثلا فقط في المجمع الانتخابي.
يمكن لمرشح رئاسي أن يفوز بانتخابات الرئاسة ويصبح رئيسا للبلاد، من دون أن يحصل على أغلبية أصوات الشعب
يختار كل حزب في كل ولاية قائمة من أسماء المرشح الرئاسي ونائبه، وأسماء مرشحي مجلس الشيوخ إذا كان في الولاية استحقاق انتخابي للشيوخ، وأسماء مرشّحي مجلس النواب، ومجموعة القوانين والتشريعات المطروحة للتصويت على مستوى الولاية، ثم يختار المواطن الأميركي إحدى هاتين القائمتين. وتسمى هذه الطريقة بالاقتراع المصغر (BALLOT SHORT)، حيث ينتخب المواطنون قائمة من مجموعة ناخبين (ناخبو الولاية في المجمع الانتخابي) تعهدوا بتأييد مرشحهم الرئاسي. وقائمة الحزب التي تفوز بانتخابات الولاية تحصد جميع الأصوات الباقية (ALL TAKES WINNER). بمعنى، إذا صوت أغلب المواطنين في ولاية ما لقائمة الحزب الجمهوري على سبيل المثال، تصبح كل الولاية جمهورية، أي أن الـ 55 مقعدا المخصصة للولاية في الكونغرس تصبح مقاعد جمهورية.
وقد فضلت بعض الولايات اختيار هذه الطريقة (الرابح يحصد جميع الأصوات) لدواع نفعية، لأنه يسمح للحزب المهيمن فيها بامتلاك كل أصوات الولاية، وما إن تبنّى أنصار أحد الحزبين هذا النظام في ولاياتهم نهاية القرن الثامن عشر، اضطر أنصار الحزب الآخر إلى السير على خطاهم في الولايات التي يسيطرون عليها، وإلا خسروا بعض الأصوات نتيجة لذلك.
ويمثل كل عضو من أعضاء المجمع الانتخابي صوتا انتخابيا واحدا، ويحتاج المرشح الرئاسي للفوز، تجاوز عتبة النصف زائد واحد (269 + 1= 270). وقد يحصل أن يفوز المرشح بأغلبية أصوات الناخبين في المجمع الانتخابي ويصبح رئيسا للبلاد، على الرغم من أنه نال أصواتا أقل على مستوى الاقتراع الشعبي، كما حدث في خمس حالات:
عام 1824 فاز جون كوينسي آدامز بأصوات المجمع الانتخابي، على الرغم من حصوله على أصوات انتخابية شعبية أقل من منافسه أندرو جاكسون. عام 1876 فاز الجمهوري رذرفورد هايز بأصوات المجمع الانتخابي، على الرغم من حصوله على أصوات انتخابية شعبية أقل من منافسه صمويل تيلدن. عام 1888 فاز الجمهوري بنيامين هاريسون بأصوات المجمع الانتخابي رغم حصوله على أصوات انتخابية شعبية أقل بتسعين ألف صوت عن منافسه غروفر كليفلاند.
عام 2000 فاز الجمهوري، جورج دبليو بوش، بأصوات المجمع الانتخابي، على الرغم من حصوله على أصوات انتخابية شعبية أقل بخمسمئة ألف صوت عن منافسه آل غور.
عام 2000 فاز الجمهوري، جورج دبليو بوش، بأصوات المجمع الانتخابي، على الرغم من حصوله على أصوات انتخابية شعبية أقل بخمسمئة ألف صوت عن منافسه آل غور. عام 2016 حصل الجمهوري، دونالد ترامب، على 304 من أصوات المجمع الانتخابي، على الرغم من حصوله على أصوات انتخابية شعبية أقل بثلاثة ملايين عن منافسته هيلاري كلينتون.
ولتوضيح هذه المسألة، يمكن ضرب مثال على أربع ولايات: كاليفورنيا (55 مقعدا) ، فلوريدا (29 مقعدا)، تكساس (39 مقعدا)، نيويورك (29 مقعدا). ولتسهيل العملية الحسابية، سأفترض أن كل مقعد يعبر عن مليون ناخب شعبي (المواطن الذي يحق له الاقتراع)، وهذا يعني أن عدد الذين يحق لهم التصويت في ولاية كاليفورنيا 55 مليون ناخب شعبي، و29 مليون ناخب شعبي في ولاية فلوريدا، و39 مليون ناخب شعبي في ولاية تكساس، و29 مليون ناخب شعبي في ولاية نيويورك. فإذا صوت 28 مليون ناخب شعبي للحزب الجمهوري مقابل 27 مليوناً للحزب الديمقراطي في كاليفورنيا، تصبح الولاية جمهورية. وإذ صوت 20 مليوناً لقائمة الحزب الجمهوري في تكساس مقابل 19 مليوناً للحزب الديمقراطي، تصبح مقاعد الولاية كلها جمهورية. وإذا صوت تسعة ملايين لقائمة الحزب الجمهوري في نيويورك مقابل 20 مليونا لقائمة الحزب الديمقراطي، تصبح الولاية ديمقراطية. وإذا صوت أيضا تسعة ملايين لقائمة الجمهوريين مقابل 20 مليونا للديمقراطيين، تصبح الولاية ديمقراطية.
وبتجميع الأصوات الشعبية وأصوات المجمع الانتخابي نحصل على النتائج التالية: حصل الحزب الجمهوري على 66 مليون صوت انتخابي شعبي في الولايات الأربع، وعلى 90 مقعدا من مقاعد المجمع الانتخابي (مجموع مقاعد ولايتي كاليفورنيا وتكساس 55 + 35 التي ربح الحزب الجمهوري فيهما)، فيما حصل الحزب الديمقراطي على تصويت 86 مليون صوت شعبي في الولايات الأربع (أكثر بعشرين مليون مما حصل عليه الحزب الجمهوري)، وعلى 58 مقعدا من مقاعد المجمع الانتخابي (مجموع مقاعد ولايتي فلوريدا ونيويورك 29 + 29 التي ربح فيهما الحزب الديمقراطي). وفقا لهذه النتائج، يفوز الحزب الجمهوري بالرئاسة، لأنه حصل على عدد مقاعد أكثر في المجمع الانتخابي، على الرغم من أنه حصل على عدد أصوات شعبية أقل بعشرين مليون صوت.
سمح النظام الأصلي الذي حدّدته المادة الثانية من الدستور الأميركي لعضو المجمع الانتخابي أن يصوّت على مرشح للرئاسة، غير الذي حصل على الأغلبية في ولايته. وقد حدثت تسع حالات، قام فيها الناخبون في المجمع الانتخابي بتغيير أصواتهم، آخرها ما جرى في انتخابات عام 2000، حين امتنعت الناخبة بربارا سيمون من مقاطعة كولومبيا عن التصويت في المجمع الانتخابي للمرشح الرئاسي آل غور، على الرغم من تعهدها سابقا بالتصويت له. وقد نُظر إلى تغيير الناخب صوته خيانة. ولذلك ذهبت 24 ولاية إلى وضع قوانين تعاقب الناخبين غير الملتزمين، وأيدت المحكمة العليا عام 1952 قوانين هذه الولايات بمعاقبة الناخبين غير الملتزمين بنتائج الاقتراع الشعبي.
تلتزم 48 ولاية من أصل 50 ولاية بنظام المجمع الانتخابي، باستثناء ولايتين، ماين ونبراسكا، اللتين تعتمدان طريقة الدوائر الانتخابية
تلتزم 48 ولاية من أصل 50 ولاية بنظام المجمع الانتخابي، باستثناء ولايتين، ماين ونبراسكا، اللتين تعتمدان طريقة الدوائر الانتخابية، بسبب أنهما لا تعتمدان نظام الأغلبية الديمقراطية، وإنما نظام الديمقراطية النسبية.
بعد انتهاء عمليات التصويت يوم الثلاثاء الكبير (يصادف هذا العام 3 نوفمبر)، تبدأ المرحلة الثانية التي تمتد من منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني وحتى 14 ديسمبر/ كانون الأول، وخلالها يعتمد حكام الولايات نتائج الانتخابات، تليها المرحلة الثالثة في 8 ديسمبر، وخلالها تتخذ الولايات قرارات نهائية في أي جدل حول تعيين أعضاء المجمع الانتخابي فيها، قبل ستة أيام على الأقل من اجتماعهم. بعد ذلك، تبدأ المرحلة الرابعة في 14 ديسمبر، حيث يجتمع أعضاء المجمع الانتخابي في ولاياتهم، ويصوتون لاختيار الرئيس ونائبه، ثم تبدأ المرحلة الخامسة التي يلتقي فيها رئيس مجلس الشيوخ ورئيس سجل محفوظات الأصوات الانتخابية لأعضاء المجمع الانتخابي في موعدٍ لا يتجاوز تسعة أيام بعد اجتماع أعضاء المجمع الانتخابي، أي في 23 ديسمبر كحد أقصى. وتبدأ المرحلة السادسة في السادس من يناير/ كانون الثاني من العام الجديد. وفي هذا اليوم، يترأس نائب الرئيس، بصفته رئيس مجلس الشيوخ، الجلسة التي يحسب فيها الكونغرس الأصوات، وإذا لم يحصل أي مرشح على أغلبية 270 صوتا، يقرّر مجلس النواب اختيار الفائز. أما المرحلة السابعة والأخيرة، فتكون في 20 يناير، حين يؤدّي الرئيس المنتخب وقت الظهيرة اليمين الدستورية، ويصبح رئيسا للولايات المتحدة.
لماذا المجمع الانتخابي؟
عندما حصلت على استقلالها عام 1776، كانت الولايات المتحدة تتكون من 13 ولاية: ديلاوير، بنسلفانيا، نيوجيرسي، جورجيا، كونكتيكت، خليج ماساتشوستس، ماريلاند، كارولينا الجنوبية، نيو هامبشاير، فرجينيا، نيويورك، كارولينا الشمالية، ورود آيلاند ومزارع بروفيدنس. وكانت مسألة اختيار الرئيس أول مسألة وجب حلها، وقدّم في ذلك ثلاثة مقترحات:
انتخاب الرئيس عن طريق الولايات، وسمي هذا الاقتراح خطة فرجينيا، لأن مندوبي ولاية فرجينيا هم أول من طرحوها. ولكن هذه الآلية تساوي بين الولايات الكبيرة والولايات الصغيرة، ما يحرم الكبيرة من حيث عدد السكان من ثقلها السياسي والاقتصادي والإداري. وتعود أسباب هذا المقترح إلى الصعوبة في إجراء تصويت شعبي لانتخاب الرئيس، وذلك بسبب اتساع مساحة البلاد وصعوبة الاتصال، فضلا عن عدم رغبة بعض السياسيين في جعل اختيار رئيس البلاد منوطا بأيدي الشعب. وقد عبر ألكسندر هاملتون أحد الآباء المؤسسين عن ذلك بقوله "يجب أن يتخذه رجال قادرون على تحليل الصفات التي تتناسب مع المنصب، وبذلك يتوفر اليقين الأخلاقي بأن مكتب الرئيس لن يسقط أبدا ضحية رجل لا يمتلك المؤهلات المطلوبة". .. انتخاب الرئيس عن طريق الكونغرس، لكن هذا المقترح لقي رفضا من بعض السياسيين، خشية أن يصبح للكونغرس سلطة قوية للغاية. .. التصويت الشعبي، لكن هذا الطريق طرح مشكلة تصويت العبيد السود، حيث كانت ولايات الجنوب تريد إدخال عبيدها في دائرة التسجيل السكاني، لأغراض سياسية، فزيادة عدد السكان تعطي الولاية مقاعد أكبر في مجلس النواب.
ولحل هذه المعضلة، توصل الآباء المؤسسون عام 1787 إلى حل وسط، يتضمن إجراء الانتخابات بواسطة مجموعة محدّدة من الناخبين في كل ولاية، مساوية لعدد ممثليهم في الكونغرس، تختارهم الولايات، كل بحسب تشريعاتها، وسميت هذه التسوية "تسوية كونكتيكت".
أصوات المواطنين لا تتساوى في ثقلها في التصويت الرئاسي، فالأصوات الشعبية الأكثر قد لا تؤدّي، بالضرورة، إلى فوز مرشحهم بالرئاسة
وقد سمحت للولايات الجنوبية تفادي الإجابة عن السؤال الخاص بالعبيد، وهي المشكلة الثانية التي تطلب الأمر إيجاد حل لها. وكان عدد المواطنين البيض الذين يحق لهم الانتخاب أكبر في الولايات الشمالية مقارنة بالجنوبية التي يغلب عليها العبيد غير المخوّلين بالاقتراع. وحلت هذه المشكلة من خلال تسوية الثلاثة أخماس التي تمخضت عن احتساب العبد بثلاثة أخماس الفرد لأغراض التمثيل، من دون أن يسمح للعبد بالتصويت. ويُعتقد أن هذه المسألة هي السبب الرئيسي وراء اختيار نظام المجمع الانتخابي. ونظرا لأن عدد أصوات المجمع الانتخابي تتحدد بناء على تعداد سكان الولاية، كان للولايات الجنوبية، بسبب قلة المواطنين البيض، تأثير في انتخاب الرئيس من خلال هذا النظام، أكثر مما كانت لتحققه عبر التصويت الشعبي. .. وهكذا، جمع المجمع الانتخابي الاقتراحات الثلاثة، وعكس إرادة صانعي الدستور في أنه مزيج من إدارة تعتمد على الولاية وعلى السكان معا، كما قال الرئيس الأميركي جيمس ماديسون (1751 ـ 1836)، فالكونغرس يتألف من مجلسي النواب، القائم على أساس السكان، والشيوخ القائم على أساس الولاية.
مشكلات المجمع الانتخابي
اقترح عضو مجلس النواب عن نيويورك، إيمانويل سيل، في العام 1970، إلغاء نظام المجمع الانتخابي، واللجوء إلى الاقتراع الشعبي المباشر، غير أن المقترح سرعان ما لقي اعتراض الولايات الجنوبية والولايات الصغيرة، لما يؤديه هذا من إضعاف تأثير ولاياتهم السياسي. ومع ذلك، ظلت أصوات تظهر، بين الفينة والأخرى، تطالب بإلغاء نظام المجمع الانتخابي، ففي مارس/ آذار 2019، قدّم السيناتور جيف ميركلي حزمة إصلاحات للكونغرس، منها إلغاء نظام المجمع الانتخابي، واعتماد آلية انتخاب الرئيس بالتصويت المباشر. وفي إبريل من العام نفسه، قدم السيناتور براين شاتز مقترحا لتعديل دستوري أمام الكونغرس، يهدف إلى إلغاء المجمع الانتخابي، لكن كلا المقترحين لم يجدا طريقهما للقبول. وفي مارس/ آذار الماضي، طرح أعضاء مجلس الشيوخ الديمقراطيون، برايان شاتز وديك دوربن وديان فاينستاين وكرستن غليبراند، اقتراحا لتعديل الدستور يدعو إلى إلغاء الكلية الانتخابية، وهو موقفٌ طرحه مرشحون رئاسيون ديمقراطيون في 2020، لأن المجمع الانتخابي، وفق ما قالت أستاذة العلوم السياسية في جامعة ماساتشوستس، أميرست أمل أحمد، يشبه دوري مباريات البيسبول العالمية، حيث "الفريق الذي يفوز بالدوري ليس الذي يحرز أكبر عدد من الأهداف، وإنما هو الفريق الذي يفوز بأكبر عدد من المباريات". ويرى نقادٌ كثيرون أن نظام المجمع الانتخابي استمر أكثر مما ينبغي، ويجب تعديله، لأنه يلحق ضررا بالديمقراطية. أولا، لأن أصوات المواطنين لا تتساوى في ثقلها في التصويت الرئاسي، فالأصوات الشعبية الأكثر قد لا تؤدّي، بالضرورة، إلى فوز مرشحهم بالرئاسة. وثانيا، لأن مرشحي الرئاسة يضطرون إلى تركيز اهتمامهم على الولايات المتأرجحة، بينما يجري تجاهل الولايات الموالية. وقد ساهم نظام قوانين الانتخابات الأميركية في تخفيض نسبة المشاركين في التصويت، لصدمتهم من هذه الآلية التي قد لا تعكس الإرادة الشعبية في لحظات ما.
يعتبر المجمع الانتخابي بصيغته القائمة انحرافا عن الديمقراطية
ويعتبر المجمع الانتخابي بصيغته القائمة انحرافا عن الديمقراطية، فلم يكن القادة السياسيون آنذاك ديمقراطيين، ولم ينظروا إلى أنفسهم ديمقراطيين، بقدر ما نظروا إلى أنفسهم جمهوريين يريدون تحقيق الخير العام للمجتمع، من خلال نظام سياسي حر وفق شروط الإمكان التاريخي. ولكن، عند النظر إلى المجمع الانتخابي من منظور الجيل المؤسس، والمشكلات السياسية التي واجهوها، يمكن رؤيته اختراعا مذهلا، كما يقول الباحث الأميركي (والمرشح السابق للكونغرس) إل ساندي مايسل. وعليه، يدافع بعضهم عن الترتيب الحالي، بالقول إنه يحول دون طغيان الأغلبية، فلو كان التصويت في الانتخابات بناء على الصوت الشعبي لأصبحت بضع ولايات (كاليفورنيا، تكساس، نيويورك، فلوريدا، بنسلفانيا، إيلينوي) هي التي تقرّر من هو الرئيس، ولأصبحت الولايات الصغيرة، ذات الكثافة السكانية المنخفضة تدريجيا، فروعا مملوكة بشكل كامل للحكومة الوطنية. ويذهب إلى هذا الرأي أيضا أستاذ الاقتصاد، فرانك غنتر، الذي يرى أن المجمع الانتخابي يسمح لولاياتٍ ذات كثافة سكانية منخفضة، مثل ألاسكا وديلاوير ومونتانا ونورث داكوتا وجارتها ساوث داكوتا وفرمونت ووايومينغ، بأن يكون لها أثر كبير في الانتخابات الرئاسية. ومع أن هذه النتيجة قد تبدو غير ديمقراطية، إلا أنها غير ديمقراطية لهدف مهم، وفق غنتر، وهي منع تحويل الأغلبية الديمقراطية إلى أغلبية استبدادية. ويعتبر مدير مركز ماكونيل في جامعة لويزفيل، غاري غريغ، أحد المدافعين عن نظام المجمع الانتخابي الذي أثبت نجاعته خلال العقود الماضية، من حيث النزاهة والمنافسة، بغض النظر عن حالات استثنائية.
نظام حكم الأغلبية
يستخدم تصويت حكم الأغلبية في المملكة المتحدة والولايات المتحدة وكندا وجامايكا والهند، بينما يندر استخدامه في أماكن أخرى. وطبقا للقانون المعروف على اسم موريس دفرجير، يجب أن ينتج حكم الأغلبية نظاما ذا حزبين بشكل رئيسي، لأن الحياة صعبة جدا لوجود أحزاب أخرى.
لم يصل المشرّعون في الولايات المتحدة إلى حد طرح استبدال نظام حكم الأغلبية بنظام الحكم النسبي، أو إجراء مواءمة بين النظامين
يعطي نظام حكم الأغلبية الحزب الفائز أغلبية كافية من مقاعد الهيئة التشريعية، بينما يفوز بأصوات مواطنين أقل بكثير من 50%. وفي انتخابات بريطانيا عام 2005، فاز حزب العمال بـ 356 مقعدا من جملة 646 مقعدا، بينما حصل فقط على 35 % من الأصوات.
والنوع البديل الرئيسي لنظام التصويت هو التمثيل النسبي، حيث تكافئ مقاعد الأصوات تقريبا في المجلس التشريعي أنصبتها من أصوات جمهور الناخبين. ومع أن نظام المجمع الانتخابي جاء ليوازن بين الأغلبية والأقلية على مستوى الولايات، لكنه عجز عن تحقيق هذا التوازن على صعيد الأصوات الشعبية، حيث فاز خمسة رؤساء أميركيين بأصوات شعبية أقل من التي حصل عليها المنافسون الخاسرون. ولذلك، بدأت دول كثيرة تعتمد نظام حكم الأغلبية بتطعيمه بالنظام النسبي، فمثلا اتجهت إيرلندا الشمالية إلى تبنّي نظام التمثيل النسبي، وكذلك فعلت الجمعيات التشريعية الإقليمية الجديدة لاسكتلندا وويلز. وفي نيوزيلندا، حدث تغيير كبير عن نموذج الأغلبية عام 1996 عندما أجرت أولى انتخاباتها بنظام التمثيل النسبي.
وينتج التمثيل النسبي عادة عددا أكبر من الأحزاب، ويعني أن معظم الحكومات هي ائتلافات من عدة أحزاب. ومعظم الديمقراطيات الليبرالية (حتى الوحدات تحت الوطنية في بريطانيا) تستخدم نوعا من التمثيل النسبي. وفي الأغلب، تعتمد على انتخاب عدة مشرّعين في دوائر انتخابية أكبر، بحيث تضمن الأحزاب مقاعد في المجلس التشريعي بالنسبة إلى أصواتها الكلية في جمهور الناخبين.
في الدولة التي تعتمد مبدأ الأغلبية، حماية حقوق الأقلية لا يمكنها أن تكون أقوى من التزام أغلبية المواطنين بالحفاظ على الحقوق الديمقراطية الأساسية لكل المواطنين.
لم يصل المشرّعون في الولايات المتحدة إلى حد طرح استبدال نظام حكم الأغلبية بنظام الحكم النسبي، أو إجراء مواءمة بين النظامين، فكل ما يطالب به بعضهم هو الإبقاء على نظام حكم الأغلبية في مقابل جعل انتخاب الرئيس يجري بشكل مباشر، من دون وساطة، المجمع الانتخابي.
ومع أن المدافعين عن نظام حكم الأغلبية يؤكدون أنه لا يطرح أي ضمان دستوري لحقوق الأقلية وامتيازاتها يتجاوز الحقوق السياسية الأساسية للمواطنين، فإنهم في المقابل يؤكدون أن الترتيبات الديمقراطية التي لا تعتمد مبدأ الأغلبية تعجز بذاتها عن منع الأقلية من استخدام موقعها المحمي لإلحاق الضرر بالأغلبية. وفي الدولة التي تعتمد مبدأ الأغلبية، فإن حماية حقوق الأقلية، كما يقول عالم السياسة الأميركي، روبرت دال، لا يمكنها أن تكون أقوى من التزام أغلبية المواطنين بالحفاظ على الحقوق الديمقراطية الأساسية لكل المواطنين.
تنبه إلى هذه المسألة الفيلسوف الفرنسي، إليكسي دي توكفيل (1805 ـ 1859)، في كتابه "الديمقراطية في أميركا"، حين كتب إن أشد الملوك استبدادا في أوروبا في الوقت الحاضر (منتصف القرن التاسع عشر) يعجزون عن منع بعض الآراء المعادية لهم من أن يتداولها الناس، فإنها تنتشر في طول البلاد وعرضها، غير أن الأمر ليس كذلك في أميركا، فما دامت الأغلبية لم تقطع في الموضوع المطروح للبحث، تظل المناقشة دائرة حوله. ولكن ما أن تجمع أمرها، وتصل فيه إلى قرار حاسم لا رجعة فيه، نجد كل فرد يلتزم الصمت. ويجتمع كل من أنصار الموضوع وخصومه على الموافقة على لزومه وسداده، والسبب في ذلك هو سلطة الأغلبية التي هي سلطة مادية وأدبية. وإلى هذه الميزة، تنبه توكفيل إلى سيئتين في نظام حكم الأغلبية الأميركي: أن طغيان نظام الأغلبية أثر على الشخصية الأميركية في آداب المجتمع، لأنه يعطل نمو الشخصيات العظيمة، وهو السبب الذي منع ظهور رجال متميزين في عالم السياسة. تغيير القوانين بشكل سريع، فليس هناك ما يمنع الأغلبية الحاكمة من تعديل الدستور والقوانين، ولذلك كانت الولايات المتحدة الدولة التي لا تعيش فيها القوانين سوى لوقت قصير.