في نقد غازي القصيبي

في نقد غازي القصيبي

19 يوليو 2022
+ الخط -

لا يمكن أن توضع حياة غازي القصيبي نموذجاً مطلقاً من التنزيه. وأكتبُ هنا وأنا أحمل له حباً وتقديراً كبيراً، لمسيرته في الإصلاح الإداري، وكفاحه الشاقّ لمحاولة تحقيق اختراقات عديدة لصالح الإنسان السعودي، ينتزعها من نظام شمولي صعب. معادلة المواطنة عنده لا تقوم، مطلقاً، على مفهوم الشراكة بين الحكم والشعب، لكن عبر منظومة التبعية المطلقة، والتي غطّت سيرة حياة المجتمع السعودي مع الدولة. لكنّ المفصل كان في سؤال، كيف يبني المثقف العروبي الوطني جسراً بين أحلامه لوطنه وطبيعة النظام، وزاوية رؤيته المنطلقة من الحكم وحده، لا من شركاء الدولة وهم الشعب، فهل نجح غازي في مساحاتٍ مهمة لصالح المواطن الإنسان؟
نعم، بكلّ تأكيد، ونجح غيره، لكنّه نجاحٌ لم يبرُز في الإرث الحقوقي مطلقاً، بحسب ما وصل إلينا، كالسعي لإطلاق ذوي المظالم من المثقفين، ومنهم ابن عمه الشهيد جمال بن سعد القصيبي رحمه الله، الذي شاركت المعارضة في نهايته المؤلمة، وكان ذلك عام 2007، أي قبل ثلاث سنوات من وفاة غازي، لعلّها خلال مرضه، فهل كانت لغازي جهود لم تصل إلينا ولم نعرفها؟
أما الإشكال الثاني، فهو موقفه في المقالات اليومية في صحيفة الشرق الأوسط، في دعمه المطلق حرب الخليج الثانية التي أخرجت الغزو العراقي. ولقد لعبت زاويته دوراً كبيراً في الرد على الأنظمة والكتل الثقافية القومية والإسلامية زمن الغزو، والتي كانت تؤيد موقف الرئيس العراقي صدّام حسين أو تتماهى معه، لكنّ الجانب الآخر من الحرب، وأثره على أمن الخليج العربي ذاته، هو خطة الغرب التي قادها الأميركيون، في تدمير العراق في الجرعة الأولى 1991، وفي عمليات الإبادة التي صُبت على الجيش العراقي، وخصوصا بعدما استجاب لقرار الانسحاب، وكان القصف الأميركي يسابق الزمن لتحقيق أكبر عملية قتل للأفراد والضباط العراقيين المنسحبين! وهذا لا يعذر النظام الأحمق وقرار صدّام حسين الكارثي، لكنّه يشير أيضاً إلى مساحة الإجرام الأميركي، ولم يقع لدي أي مذكرات لغازي تتحدّث عن هذا التوازن في الموقف، والبعد الآخر للحرب، لقد كانت مقالاته محصورةً في سياق الردّ على الهجوم القومي الضخم على أهل الخليج العربي لتبرير غزو الكويت.

كان غازي القصيبي يحمل لساناً مهذّباً بريئاً من العنصريات والعنتريات، ظلّ معه في حقائبه الوزارية

ويبقى أنّ هذا الملف ضمن مسؤولية الموقف الأخلاقي والفكري العروبي والإسلامي، الذي يُحاسَب به غازي، وتُستدعى تلك الفترة بموجبه، رغم أن غازي كان يحمل لساناً مهذّباً بريئاً من العنصريات والعنتريات، ظلّ معه في حقائبه الوزارية، لكنّه أشرق على الناس بعد رحلة لندن فعرفه الشعب بصورة أكبر.
العبور من داخل القصر ليس كالعبور من طرفه، فالداخل هنا هو مسار الشراكة المباشرة مع الحكم، يقاس عطاء الإنسان فيه بقدر ما يمكن تحقيقه لصالح الشعب، وليس بعلاقته الخاصة أو المداهنة لرأس الدولة أو أسرة الحكم ذات الطبيعة الشمولية، غير أن هناك مساحة مختلفة لمثقفين عبروا من هامش القصر. مع ذلك، تحوّلوا إلى منبر للتحريض أو المدح التقديسي، فيما كان بعضٌ يعمل من قصر النظام لصناعة جسر ثقة تعبر به جهوده للإصلاح، وهو ما يبرز لصالح غازي الذي لم تُنشر له نصوص تقديس، وظل محافظاً على توازنه الأخلاقي.
ولغازي دفاتر من مواقف الدعم والإحسان، على الصعيد الوظيفي الاعتباري للشخصيات السعودية والعربية، وعلى صعيد الدعم التطوعي والصدقات، كان يُخفيها في أدراج الآخرة، كما أنّهُ ركّز على دعم التجارب الأدبية والثقافية والفكرية في قلمه الأدبي، بحيث كان يتناول إصدارات لمبتدئين ومغمورين، ويوقّع بقلمه مقالات عديدة عنهم. وهنا كان غازي يبرز أديباً جمعياً وطنياً يستظلُّ به السعوديون، ويجمع شملهم، وفي الوقت ذاته، يغني لعروبته بمفردات فكره لا حسابات الثورجيين.

معارك كانت تتهم غازي في دينه، وتستدعي نصوصاً قديمة تؤجّج الشارع عليه، وعلى مفاهيمه

أُدخل غازي موسم الصراع الذي كان يُحرّك أمنياً في المسرح السعودي، وحينها كانت عقلية الصحوة السعودية، المختلفة عن صحوة الشرق المسلم الكبير، مهيّأة لخوض معركة سياسية مع القصيبي. وكانت، في تقديري، تخدم سياسة الحكم المركزية، ولم ينتبه لها بعض العلماء إلّا متأخراً، لكنّ الشيخ سلمان العودة أعاد ترتيب العلاقات بقوة مع الراحل غازي القصيبي، لطيّ تلك الصفحة والمعارك السخيفة، وهي معارك كانت تتهم غازي في دينه، وتستدعي نصوصاً قديمة تؤجّج الشارع عليه، وعلى مفاهيمه التي تؤمن بالإسلام وبمساحته في الحياة الاجتماعية والمدنية، إذ كانت أفكار غازي في ذلك الزمن تتصل بالمفهوم الإسلامي، بعمق أكبر وتتلمس أوجه الحكمة في الشريعة، لكن بلغة ووعي لا تدركه الصحوة السعودية، أو على الأقل وجهها الصراعي المتشدد، والرافض أي اجتهادات فكرية. ولذلك كان عناق فكر الشيخ سلمان العودة مع ثقافة غازي القصيبي حميمياً، ولو طال به عمر وسمحت الظروف، فقد كان مهيأً لخلق مسار ثقافي رشيد للأجيال السعودية، ولحقوق المرأة وللجمع بين العفّة والمشاركة، قبل أن ينفجر المشهد في العهد الأخير، وتؤول الأمور إلى ما آلت إليه.
لعلّ ما أضرّ بغازي المفكر الوطني الغيور، والروح الإسلامية المحتسبة في حياته الخاصة وصلواته، هو دفعه إلى مواجهة مع التيارات الدينية، وقد لعبت ردوده دوراً كبيراً في كبح جماح الهجوم الصحوي التكفيري، وهو تكفيريٌّ حقيقي في جوانب منه واتجاهات عاصرتُها بنفسي وتعرّضتُ لها شخصياً، رغم تدشين جولات للحوار الوطني، تم تكثيفها في عهد الملك عبد الله. إلا أنّ فُرص الاستماع للآخر، رغم وجود قواعد مشتركة كبرى، لدى غير الراديكاليين من الطرفين لم تُنتج. ولو كان القرار الرسمي جادّاً، فإنّ غازي رحمه الله كان من خيرة من يصيغ ميثاق التوافق المجتمعي، الذي كان من الممكن أن يخلق بنية لسعودية جديدة حقوقية (نسبياً)، لصالح الحكم والشعب، لكنّها أحلام أسقطها النظام، كما هي بقية مشاريع الإصلاحيين وآمالهم.