في دبلوماسية الكوارث الطبيعية

في دبلوماسية الكوارث الطبيعية

24 سبتمبر 2023
+ الخط -

للدبلوماسية صنوف ومسمّيات ومداخل ومواقف، منها ما هو معروف، كالدبلوماسية التقليدية، ومنها ما هو مستجدٌّ ووليد ظرفه ولحظته، كدبلوماسية الكوارث والأزمات، التي تعتبر من المصطلحات الحديثة نسبياً، والتي تطوّرت بسرعة لتفتح مجالاً لدراسة فرص بناء العلاقات الدولية.

تُعرّف دبلوماسية الكوارث بأنّها البناء على المساعدات الإنسانية في لحظة الكارثة، لتحقيق مجموعة من الأغراض والأهداف، كتصحيح العلاقات الدبلوماسية والسياسية المقطوعة، أو لتعميق هذه العلاقات، أو للتوظيف السياسي لهذه المساعدات واستثمارها لغاياتٍ وأهداف ما، وبالتالي، تعدّ هذه الدبلوماسية من أشكال الدبلوماسية المرنة والناعمة، لها أدواتها الخاصة تتحرّى كيف ولماذا تؤثر الأنشطة المتعلقة بالكوارث والأزمات في الصراع والتعاون بين الدول في العلاقات الدولية.

في أجواء الكوارث الطبيعية، وخصوصاً تلك المدمّرة، قد تصبح هذه الكوارث أرضية جيدة للتلاقي بين الدول لتجاوز خلافاتها ونزاعاتها، أو لتعزيز أواصر العلاقات من خلال المبادرات والمساعدات المقدّمة بعيداً عن المسرح السياسي المعقد، أي قد تكون سبباً للتعاون الدولي والتضامن الإنساني الذي يعبّر، في جانب كبير منه، عن تحوّلات في الطابع الإنساني للعلاقات الدولية، وهو ما تجسّد في عديد من المشاهد الإغاثية التي ارتبطت باندلاع الكوارث هنا أو هناك، فقد أظهرت كارثة الزلزال المدمّر الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سورية في فبراير/ شباط الفائت، أن جهود التضامن الإنساني وقت الكوارث والشدائد قد تساهم في تعزيز العلاقات الدبلوماسية بين الدول، وكذلك قد تفتح المجال أمام خفض حدّة التوترات السياسية بينها، وهذا ما ظهر جلياً في الموقفين الأرمني واليوناني، وموقف دول عديدة تجاه الكارثة في تركيا، والذي تجاوز مفهوم التضامن الإنساني، ليصبح بمثابة خطوة مهمّة قد تؤسّس لحلّ قضايا تاريخية عديدة عالقة، وعودة العلاقات إلى وضعها الطبيعي.

قد تكون هذه الكوارث، وما يرافقها من دبلوماسية، سبباً لتأزيم العلاقات، وزيادة الخلافات بين الدولة المتضرّرة وغيرها من الدول الراغبة في تقديم المساعدة

على الطرف المقابل، قد تكون هذه الكوارث، وما يرافقها من دبلوماسية، سبباً لتأزيم العلاقات، وزيادة الخلافات بين الدولة المتضرّرة وغيرها من الدول الراغبة في تقديم المساعدة، وأحد هذه النماذج ما جرى بين المغرب من جهة، والجزائر وفرنسا من جهة أخرى، بعد فاجعة زلزال إقليم الحوز في المغرب، فعلى الرغم من إعلان كل من الجزائر وفرنسا عن رغبتهما واستعدادهما لتقديم المساعدات الإنسانية والإغاثية إلى المغرب، فإنّ المغرب أبدى ضمنياً عدم حاجته إلى تلك المساعدات، فيما قَبِلَ مساعدات من غيرهما، الأمر الذي أطلق موجة من الاتهامات المتبادلة بين المغرب من جهة وكل من فرنسا والجزائر من جهة أخرى، أضافت إلى الملفّات الخلافية حساسيات جديدة. لذلك، يمكن القول هنا إنّه، وعلى الرغم من أنّ الجزء الأكبر من تكاتف الدول في لحظة الكوارث قد ينبع من عمق إنساني، فإننا لا نستطيع تجاوز الجانب السياسي في المشهد من كلا الطرفين، سواء المتضرّر أو الراغب بالمساعدة، فليس كل مساعدة إنسانية تحمل، بالضرورة، جوهرها الإنساني البحت، فهناك دول وأنظمة تعمَد إلى تسييس تقديم المساعدات، مدفوعة بحساباتٍ وتأويلاتٍ سياسية، من أجل تحقيق أهداف معينة مرتبطة بأجندات استراتيجية محدّدة، أي تحويل تلك المساعدات في أثناء الكوارث والأزمات إلى أدواتٍ لتعزيز مكانة الدولة، كنوع من القوة الناعمة، فاصطياد الزمن والظرف يعتبر من فنون الدبلوماسية. ولنا في أزمة انتشار وباء كورونا أمثلة عديدة، أهمها الصين التي نجحت في توظيف دبلوماسية الكوارث من خلال إرسال المساعدات الطبية إلى دول عديدة، بما فيها دول أوروبية، لتحقيق بعض المكاسب السياسية على حساب بعض القوى الدولية المنافسة، وهو ما حمل في طياته مسارين: الأول رسمي طبيعي، قائم على تقديم مساعدات إنسانية لدول محتاجة، بينما حمل الثاني جانباً شعبوياً غير رسمي، هدفه تعزيز مكانة الصين التي تقدّم المساعدة بين الشعوب، في وقتٍ امتنعت فيه دول أخرى عن تقديم هذه المساعدة.

في المحصلة، يمكن القول إنّ دبلوماسية الكوارث قد تكون سبباً في توفير مساحة آمنة يمكن لطرفين متباعدين أن يعبّرا فيها عن حسن النيات، وتتقارب في هذه المساحة المصالح، وقد تسقط فيها سنوات طويلة من الخلافات والصراعات، فما تستطيع أن تُحدثه دبلوماسية الكوارث أحياناً من أثر في تخفيف، وربما إذابة، الخلافات بين الدول، وحتى داخل الدولة الواحدة، لا تستطيع أن تحقّقه غيرها من الأدوات السياسية الأخرى. لذا نأمل من الله تعالى أن تكون كارثة فيضانات درنة في ليبيا، التي تسبّبت في مقتل آلاف من سكّان درنة، سبباً في فتح أبواب جديدة للحوار بين الأطراف الليبية المنقسمة، وكذلك إذابة الخلافات بين الأطراف الليبية، والتعجيل في إنهاء الانقسام، كما فعل تسونامي المحيط الهندي عام 2004، الذي كان سبباً في إنهاء الحرب الأهلية بين انفصاليي إقليم إتشيه والحكومة الإندونيسية.