في تداعيات الحرب... أزمة معرفة أم أزمة قيم؟

في تداعيات الحرب... أزمة معرفة أم أزمة قيم؟

29 يناير 2024
+ الخط -

ربما لن يهمّ الناس كثيراً أن نثير معهم حالياً الآثار الجانبية لحرب غزّة على المعرفة والقيم، فالضحايا يكتوون جوعاً وبرداً إذا ما نجوا من القصف القاتل. ومع ذلك، هذه الحرب مركّبة وشاملة الأبعاد. ربما لو كانت خاطفة لاكتفينا بإحصاء الضحايا والتنديد بالكيان الغاصب، ولكنها هذه المرّة، وقد طالت، أثارت ما ظل دفيناً عقوداً.  لقد "حيرت مواجع" كثيرة في الذاكرة والوجدان والضمير والعقل معاً. 
جرفت هذه الحرب معها الجميع، ورمتهم في ساحة وغاها، وندر من ظلّ على الحياد أو اللامبالاة. لم يستطع جلّنا أن يتسلق ربوتَه، ومن فعل منا ذلك، اقتحمت عليه الحرب بصورها وبشاعتها ربوته ورمته مرّة في لجّها، فمنذ الأيام الأولى، صدرت مواقف صادمة أحياناً ومشرّفة أحياناً لمفكّرين كبار، لحقتها جملة من الإجراءات التي طاولت خصوصاً مناصري غزّة من عمداء كليات أو أستاذة جامعيين. ولعلّنا لن ننسى تلك المواقف المُخزية التي عبّر عنها فلاسفة ومفكرون كبار، لا شك أنه كانت لهم تأثيراتٌ مهمة على أجيالٍ من الجامعيين العرب، وهم الذين نقلوها إلى طلابهم.
يحتدّ الجدل حالياً في أكثر من بلد عربي، وإنْ بأقدار متفاوتة بشأن تلك التداعيات، وهي عموماً تتوزع إلى ثلاثة مخيّمات، لا أعتقد أن الأمر سيتوقّف عند مجرّد التعبير عن هذا في شبكات التواصل الاجتماعي، أو أمام مدارج الجامعة. ففي تونس، مثلاً، انقسمت النخب المعنية بالمسألة الثقافية عموماً، إذا ما تجاوزْنا حصراً جدران الجامعة، واعتبرنا أن هؤلاء هم المنخرطون، إلى جانب مكاناتهم العلمية، في الجدل العمومي، أي إبداء جملة من المواقف مما يجري من قضايا الشأن العام. 
لا يزال المخيّم الأول يعبّر عن نفسه من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، وتحديداً عبر تدوينات مطولة، أو عبر مقالاتٍ صدرت في صحف تونسية تلقى اهتماماً خاصّاً من النخب وعموم المثقفين، يعبر هؤلاء عن تبرّمهم من "الإبستيمياء" الغربية التي ظلّت تعيد إنتاج مختلف أشكال الإقصاء والاستعلاء الذي يذهب إلى تحقير الغير، وتشريع إبادته، ولو في الحد الأدنى من الرمز، أي اعتبار ثقافته خرافة ووهماً تحتاج إلى تنوير عقلاني يطمس جميع كينونته. يعتبر هؤلاء أن سردية الغرب التي يقدّمها عن نفسه كانت وما زالت تشرع إلى إلغاء الغير وإبادته. ولذا، حري بنا أن نتجاوز هذا الإرث الكولونيالي الذي تراكم طويلاً. لا تترك المركزية الغربية مساحة للآخر، حتى يساهم معها في بناء الكوني أو المشترك. يستند هؤلاء إلى مختلف تيارات ما بعد الحداثة، وما بعد الكولونيالية عموماً. يعترف بعضهم بصعوبة البديل، وبقاء عتبات كبرى من أجل بناء معرفة إنسانية لا تكتفي بالتنديد أو تخطّي عتبة ما بعد الكولونيالية.

جرفت الحرب في غزّة معها الجميع، ورمتهم في ساحة وغاها، وندر من ظلّ على الحياد أو اللامبالاة

ويردّ المخيم الثاني على الأول ردّاً حادّاً، ويعتبر هؤلاء مؤدلجين، تتقاذفهم ميولاتهم السياسية، ولو كان ذلك على حساب المعرفة العلمية والدقّة والصرامة. ولذلك يعتقدون أن منتمي المخيّم الأول لا يمكن أن ينتجوا معرفة، بل إنهم منخرطون في معارك سياسية تحارب الرأسمالية تحديداً، وليس غرب المعرفة التي راكمت النهضة والأنوار والحداثة لاحقاً. يعترف هؤلاء بأن بعض الفلاسفة والمفكّرين، كما في فترات الحروب دوماً، اتخذوا مواقف غير سوية من قضايانا العربية، على غرار سارتر وفوكو وهابرماس، ولكن لا يمكن تماماً أن نشكّك في متانة ما أضافوه من أنساقٍ فلسفية كبرى شكّلت منعطفاتٍ في تاريخ الفكر البشري. يعمد هؤلاء أيضاً إلى التمييز بين القيم والأفكار، وأهمية محاسبة هؤلاء على مواقفهم، وليس على أفكارهم. وهم يدعون إلى نقد فكري لهذه المنظومات الفكرية من داخل الفكر الغربي، ولا يرون إمكانية إقامة ممكنة خارج مملكة هذا الفكر على زلاته وانحرافاته من حين إلى آخر، ويخشى هؤلاء الانحراف بالنقاش الجاري حالياً إلى السقوط في حالة من الأصولية الفكرية المتشدّدة التي قد تحاكم الفكر الغربي عموماً.
ويتبنى المخيّم الثالث مقولة النقد المزدوج، كما صاغها مبكراً المفكر المغربي، عبد الكبير الخطيبي، حين ألحّ على أهمية أن ننقد الذات والآخر معاً، رغم صعوبة التردّد المستمرّ بين هذين الفضاءين المعرفيين، أي الإقامة المزدوجة في "الهنا "و"الهناك". وقد يكون هذا الأمر مُضنياً وغير فعّال لأن يفقد هذا المشروع أصالته حسب نقادٍ عديدين.
ستدفع الأشهر القليلة المقبلة هذا الجدال إلى أقصاه بانتظار تبلور المضامين والمناهج الدقيقة لدى أصحاب هذه الأطروحات الكبرى التي ما زال الجدل بينها قائماً في مستوى الشبكات الاجتماعية للتواصل والمنابر الإعلامية. والأكيد أن لصدى هذا الجدل ما يناظره في جلّ البلدان العربية الأخرى.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.