عندما يؤكّد المؤشّر العربي العروبة واقعاً

عندما يؤكّد المؤشّر العربي العروبة واقعاً

11 يناير 2023
+ الخط -

بعد أيامٍ من المفاجأة التي أحدثها انتشار مشاعر التضامن والفرح والتوق للتواصل بين أبناء البلدان العربية، والتي ظهرت عبر جمهور المشجّعين العرب المنتشين بانتصارات المنتخبات العربية، ورفعهم العلم الفلسطيني في مونديال قطر 2022، جاءت نتائج استطلاع "المؤشّر العربي 2022"، التي أعلنها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الأسبوع الماضي، لتؤكّد بالأرقام والنسب الدقيقة أن ما كنا نظنه أحلاماً رغائبية بلحظة عروبية هو واقع حقيقي، فالحلم الذي حاول العرب، في النصف الثاني من القرن الماضي، تحقيقه، لم يتلاشَ بالتقادم، بل انتقل إلى الأحفاد الذين رأينا تضامنهم في كل الدول العربية وفي ملاعب قطر وساحاتها. وإزاء المشكلات التي رصدها المؤشّر، والنسب التي بيَّنها بشأن عدم رضى المواطنين عن حكوماتهم، وتفضيلهم الديمقراطية، وموقفهم الإيجابي من الاحتجاجات التي حدثت قبل عقد، يمكن القول إن هذا الواقع جعل ذلك الحلم يعود، بعد فشل الحكومات العربية في إقامة الدولة الحديثة.

ويمكن الاعتماد على المؤشّر العربي في نسخه السابقة، التي انتظم المركز العربي في إنجازها وإصدارها، في الاطّلاع بدقة على موقف المواطنين من قضايا الهوية العربية الجامعة والديمقراطية والعدالة، والموقف من فلسطين والتطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، وعلى قضايا التنمية ومدى تحقيق مطالب الشعوب فيها وفي العيش الكريم، علاوة على الموقف من احتجاجات الربيع العربي، والتي تتعلق جميعها بمدى تكون الحلم الجامع أو عدمه. والمؤشّر العربي الذي يعد استطلاعاً دورياً، دأب المركز العربي على تنفيذه وإصداره منذ سنة 2011. وقد شمل الاستطلاع هذه السنة 33300 مستجيب ومستجيبة من 14 بلداً عربياً أُجرِيت معهم مقابلات شخصية مباشرة، وشارك 945 باحثاً وباحثة في تنفيذه على مدى النصف الثاني من السنة الماضية. وبفضل ضخامة هذا الاستطلاع وتعدُّد موضوعاته، والمنهجية والجدّية والمسؤولية في إنجازه وتواتر صدوره سنوياً، صارت بياناتُه مصدرا مهمّا للمؤسسات البحثية وللأكاديميين والخبراء والكتّاب والمحللين السياسيين والصحافيين.

أوضحت الاستطلاعات رصد المواطنين عدم تطبيق الدولة القانون بين الناس بالتساوي أو اعتمادها التمييز لمصلحة بعض الفئات

معروفٌ أن الترهل بدا، في السنوات الأخيرة، على دول عربية كثيرة، وثبت أن دولاً وحكومات كثيرة تدير بلدانها من دون تخطيط علمي مستقبلي ينطلق من واقع الحال. لذلك، شهدنا دولاً وصلت إلى مرحلة الفشل، وباتت على شفير الانهيار، بما يمثله هذا من خطورة الانفجار الداخلي الذي يمكن أن تطاول شظاياه جميع دول المحيط العربي، وربما تتخطّاه. ومن هذه الدول لبنان والعراق، وهما من الدول التي لم تصل إليها موجة الربيع العربي، لكن وضعهما شبيه بوضع الدول التي وصلت إليها الموجة وتسببت الثورات المضادّة فيها بما آلت إليه حالها من كوارث اقتصادية وأمنية ضربتها. وبدأت ما تسمّى "الهويات الميتة"، من عائلية وقبلية وعشائرية ومذهبية وطائفية تتكرس في تلك البلدان بسبب فشل الحكومات في التأسيس لدولة المواطنة، علاوة على الإفقار الممنهج للشعب، الذي جعله فقره ينكفئ ليبحث في العائلة أو القبيلة أو العشيرة أو الطائفة عما توقفت الدولة عن تأمينه له من عيشٍ كريم وحماية. وقد بدأت تلك الهويات بالظهور في الربع الأخير من القرن الماضي، بعد فشل المشروع القومي، يوم تحوّلت البلدان التي رفعته شعاراً إلى دول تسلّطية جعلت الشعوب تنكفئ إلى تلك الهويات المنسيّة.

لذلك فقدَ أبناء هذه الدول الأمل في عودة العافية إلى دولهم بسبب اجترار الحكومات المتعاقبة المشاريع الفاشلة التي كانت تتبنّاها الحكومات التي تسبقها، فأصبحت هذه الدول نابذة لأبنائها، يركبون قوارب الموت هرباً إلى أوروبا، أو إلى أي بلد آخر يؤمن لهم عيشاً كريماً. وفي هذا السياق، وفي مراجعة لبعض نقاط المؤشّر العربي التي تدل على عدم رضى المواطنين عن حكوماتهم وواقع بلدانهم السياسي والاجتماعي والاقتصادي، لوحظ ارتفاع نسبة من لا يثقون بمؤسسات دولهم التنفيذية (الحكومة)، والتشريعية أي التمثيلية (من مجلس نواب ومجلس شعب ومجلس شورى). كما سجّل المؤشّر ارتفاع اتجاهات الرأي حول مدى انتشار نسبة الفساد المالي والإداري خلال السنوات الثلاث الأخيرة عن السنوات الأربع التي سبقت، وهو ما يدل على مدى تساهل الحكومات مع الفساد وغياب المحاسبة، إذا لم نقل تورّط الحكومات ذاتها في الفساد وتغطيته. وأوضحت الاستطلاعات رصد المواطنين عدم تطبيق الدولة القانون بين الناس بالتساوي أو اعتمادها التمييز لمصلحة بعض الفئات. وفي ما يتعلق بالأقاليم، أجمع المستطلعون حول موضوع الفساد وموضوع عدم تطبيق القانون ارتفاع النسبة في إقليم المشرق العربي (فلسطين ولبنان والأردن والعراق)، مع غياب مؤشّرات عن سورية، ربما لتعذّر الدخول إلى الأراضي السورية أو خطورته.

تؤكّد نتائج المؤشر العربي 2022 بالأرقام والنسب الدقيقة أن ما كنا نظنه أحلاماً رغائبية بلحظة عروبية هو واقع حقيقي

وفي ما يخصّ نتائج الاستطلاعات التي تعدّ مؤشّرات احتجاجية على الواقع، يؤكّد المؤشّر أن النسبة الكبيرة ما زالت تعد الوضع السياسي في بلدانهم سيئاً أو سيئاً جداً. لذلك نرى أن نسبة 72% من المستجيبين عبَّروا عن تأييدهم للنظام الديمقراطي، ويعدّونه أفضل من غيره لبلدانهم، فيما قيموا واقع الديمقراطية في بلدانهم بالسلبي. أما موضوع الاحتجاجات الشعبية وثورات سنة 2011، قيمها 46% منهم بين إيجابي وإيجابي جداً، بينما امتنع 15% عن الإجابة. وعن الموقف من التطبيع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي فما زالت نسبة الذين يعارضون الاعتراف بالكيان الإسرائيلي، منذ سنة 2011، تفوق 84%. في هذا الإطار، قال 76% إن "قضية فلسطين هي قضية العرب جميعاً، وليس قضية الفلسطينيين وحدهم". وربما يكون الاحتجاج قد تمظهر بالعودة لتبني الهوية العربية الجامعة، رداً على التقسيم الذي تتحصن خلفه الأنظمة. وعليه ليس غريباً ما توصل إليه المؤشّر أن 80% من المستطلَعين يرون أن سكان الوطن العربي يشكلون "أمة واحدة ذات سمات واحدة تفصل بينها حدود مصطنعة"، وإن كان ثمة تمايز ببعض السمات بين أبناء هذه الدولة عن غيرها.

اعتماداً على ذلك الواقع، وعلى نتائج استطلاع المؤشّر العربي، هل يكون العمل العربي المشترك حلاً لمشكلات أبناء الدول العربية؟ ذلك ممكنٌ جداً، مع هذه النسبة الكبيرة من الحالمين به. وقد يجد العرب ضالتهم بنموذج شبيه بالاتحاد الأوروبي، باعتباره نموذجاً جاذباً، أو أي نموذج آخر، يحقّق أي شكل من التعاون أو الاندماج، ويحقق لمواطنيه ما أرادوا من دولتهم أن تحققه وفشلت.

46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.