سباق التسلح ونهاية النظام الليبرالي الدولي

23 مارس 2023
+ الخط -

لم يعد موضوع "التسلح ونزع السلاح .. والأمن الدولي" عنوانا جامعا في كتاب معهد ستوكهولم السنوي لأبحاث السلام الدولي، فالحرب في أوكرانيا مستمرّة، ولن يكون العالم قبل الغزو الروسي هو نفسه بعد الغزو. يُظهر رصد الوقائع والتحوّلات والصراعات العسكرية والأمنية والاستراتيجية تطور عمليات الإنفاق على التسلح، ومعها تطور المخاطر التي تواجه العالم، فضلا عن مخاطر التغييرات البيئية، وما تُحدثه من تزايد في الكوارث الطبيعية، فالميزانية العمومية الخاصة بالسلام والأمن تميل نحو الكلفة السلبية بالأحداث المزعجة التي تغذّي القلق حيال متانة أجزاء رئيسة من هيكل الأمن الدولي. العالم في شكل جديد من أشكال الحرب، تتطلّع معه أميركا مجدّدا إلى لعب دور شرطي العالم، من دون أن يعني ذلك مشاركتها مباشرة في عمليات عسكرية مختلفة، على غرار مشاركتها في الحرب العالمية الثانية، وحروبها السابقة. تنفّذ العمليات باسم الدفاع عن القيم الغربية ومصالحها، والتي تكلف غاليا من الناحية البشرية، تزايد وتيرة العنف المسلح وفتكه، النزوح واسع النطاق، التنافس الحادّ بين القوى الكبرى والإقليمية، تراجع الديمقراطية بانعدام المساواة، والشعبوية، والمآسي الإنسانية (11 مليون أسرة روسية، لها روابط مباشرة مع أوكرانيا على مستوى الأجداد والأقارب). لا تريد أميركا أن تتخلّى عن زعامة العالم، ولكنها تسعى إلى ذلك بشكل مختلف، عبر تحميل الأعباء للآخرين، الأوروبيين والآسيويين، عبر تعزيز تعاونها مع الهند (الاصطفاف المتعدّد)، في المحيطين، الهندي والهادئ، لمواجهة النفوذ المتزايد للصين، ودول في جنوب شرق أوكرانيا، وتشجّع حلفاءها الأوروبيين على الانخراط أكثر على المستوى العسكري. هذا ما تم بنجاح أيضا مع اليابان من خلال تغيير سلطات طوكيو ميزانية الدفاع (2% من الناتج القومي)، على الرغم من تناقض القرار مع الدستور السلمي للبلاد.

يذكر معهد ستوكهولم، في تقريره، أن واردات الأسلحة إلى أوروبا زادت بشكل حادّ نتيجة حرب أوكرانيا، علما أن السنوات من 2018 إلى 2022، شهدت انخفاضا في عمليات نقل الأسلحة الدولية بنسبة 5%، مقارنة بالفترة من 2013 إلى 2017. لكن من ناحية أخرى، زادت واردات الدول الأوروبية من الأسلحة، التي تم الحصول عليها بشكل أساسي من الولايات المتحدة بنسبة 47%. أما واردات دول "الناتو" الأوروبية، فارتفعت بنسبة تصل إلى 65% (تسلح بشكل هائل)، والسبب أوكرانيا التي حلّت في المركز الثالث على مستوى العالم دولة متلقية للأسلحة. ووفقًا لحساب المعهد، لم تصل الشحنات إلى مستوى الشحنات الأميركية إلى أربع دول متلقية أخرى، الكويت والسعودية وقطر واليابان. الحرب بالوكالة التي تقوم بها واشنطن أكثر من مجرّد حرب. الخطر الأكثر استراتيجية أن واشنطن تعمل في سباق التسلح الجامح، من دون أن تتمكّن المنظمات الدولية، كمجلس الأمن، من إيقافه بسبب التنافس الدولي. ارتفعت مبيعات الأسلحة بنسبة 109% عن عام 2021، لتصل إلى 592 مليار دولار.

تمتلك روسيا قاعدة صناعية ضخمة، لكنها لم تحصل سوى على طلبات قليلة نسبيًا في سجلاتها من توريد الأسلحة

أهم خمس دول مصدّرة للأسلحة في العالم، حسب حجم الصادرات، الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا والصين وألمانيا (خصّصت موازنة مائة مليار دولار للتسلح). لم يتغير الترتيب مقارنة بالفترة السابقة، ولكن تغييرات كبيرة وقعت، فزاد تصدير الولايات المتحدة، التي تحتل المرتبة الأولى بنسبة 14%، وتمثل حاليا 40% من العمليات. وسجلت فرنسا المرتبة الثالثة، زيادة أكبر بنسبة 44%. اللافت هو الخسائر في صادرات الأسلحة الصينية بنسبة 23%. وبشكل عام، أهمية الصين مصدّرا عالميا للأسلحة ضعيفة، مقارنة بأهميتها الاقتصادية، يمكن أن تضاعف الصين ناتجها المحلي بحلول عام 2035 إلى 29 تريليون دولار (بيتر وايزمان، باحث في معهد سيبري). في المقابل، انخفضت عمليات توريد الأسلحة في مناطق أخرى، ويظهر هذا الانخفاض بشكل كبير جداً في أفريقيا التي شهدت تراجعا بنسبة 40%، الشرق الأوسط 9%، أميركا الجنوبية 20%، آسيا 7%. لذلك ستبقى الولايات المتحدة إلى حد بعيد أهم مورد للأسلحة، تزود أستراليا بغواصات نووية ( يعتبر ريشي سوناك الصين تمثل تحديا للنظام العالمي، وحكومته تسعى إلى استثمار 3.5 مليارات يورو في الطاقة النووية العسكرية). يتّضح أن حوالي 60% من عمليات التسلح في العالم من إنتاج أميركي. ويرى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن "من الضروري لأوروبا أن تستمر في إنتاج الأسلحة، وبناء هيكلها الأمني لكسب مزيد من الاحترام والاعتبار بين القوى الكبرى". فيما دعا رئيس المجلس الأوروبي، شارل ميشيل، أوروبا إلى "الارتقاء في المساعدة العسكرية لأوكرانيا". وهذا ما تقترحه أستونيا "تعبئة صناعة الدفاع".

ما يتعرّض للهجوم نمط الحياة الإنسانية وصولاً إلى صور المجازر، وجرائم الحرب وأخبار الزلازل والموتى، واللاجئين، والدمار

لا يتعلّق الأمر بمساعدة أوكرانيا فحسب، بل بتجديد المخزون الأوروبي من السلاح، إذ يرى مستشار معهد مونتين الفرنسي، ميشيل دوكلوس، "أن الحرب في أوكرانيا تشير إلى نهاية وهم النظام الليبرالي الدولي، ونهاية الالتزام بميثاق الأمم المتحدة، والقانون الدولي". تمتلك روسيا قاعدة صناعية ضخمة، لكنها لم تحصل سوى على طلبات قليلة نسبيًا في سجلاتها من توريد الأسلحة، ويعود ذلك إلى حاجتها لأسلحةٍ كثيرة. السيناريو الأسوأ أن تمتد الحرب، ويشمل الصراع دولا أخرى، وهو سيناريو الحرب العالمية الثالثة، فالحرب الروسية في أوكرانيا هي حرب الموارد لكلا الطرفين المتمسّكين بفرصتهما في الفوز، مع الخشية من حمام دم في الربيع، سيضيع العالم في هذا السباق بين خطابي الرئيسين الأميركي بايدن والروسي بوتين في مبارزة بين الدعوة إلى الحرية وخطاب الضحية.

دخلت أخبار الحرب الحياة اليومية العالمية، غير أخبار التضخّم، والصحة، وأجور العمّال. ما يتعرّض للهجوم هو نمط الحياة الإنسانية وصولا إلى صور المجازر، وجرائم الحرب وأخبار الزلازل والموتى، واللاجئين، والدمار. ما يشهده العالم اشتداد الحملات الإعلامية والعسكرية. تزيد الصين من السلاح والعلاقات الدولية. علّقت روسيا مشاركتها في معاهدة "نيو ستارت" مع أميركا التي تحدّ من الترسانات الاستراتيجية النووية بين البلدين. توحي المعطيات أن برميل البارود جاهز للانفجار مع إجمالي إنفاق عسكري، قد يتجاوز تريليوني دولار عام 2021، جرّاء تسليحٍ مفرط، وحروب وصراعات، واحتلالات مقبلة (تايوان)، وأنشطة نووية، وأعمال إرهابية، واستقطابات دولية، وعداوات إقليمية، ونزعات انفصالية، ومحاولات انقلابية، وعمليات نزوح، وهجرة غير شرعية، وتغييرات بيئية تزيد من الكوارث، وتؤثّر في الأمن المجتمعي والغذائي، ما سيطرح نموذجا مختلفا من الحرب الباردة في السنوات المقبلة. ليست اللهفة على التسلح نفسها الحكمة الدّالة على استدامة الاستقرار والازدهار العالميين.

يقظان التقي
يقظان التقي
إعلامي وأكاديمي ومترجم لبناني، له عدد من الكتب، دكتوراة في الدبلوماسية والعلاقات الدولية.