دافوس... فلسطين والذكاء الاصطناعي

دافوس... فلسطين والذكاء الاصطناعي

24 يناير 2024
+ الخط -

انتهت فعاليات أعمال المؤتمر السنوي للمنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس في دورة العام 2024 إلى تباين في الرؤى الدولية في خضم التحولات والمتغيرات المتسارعة. ليس فقط على مستوى الطبقات المتوسّطة والغنيّة، وإنما أيضا مسألة الشكل الذي يُصيب المجتمعات سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. عام 2024، عام كل الأخطار مع استمرار الحروب والأزمات، وبلا نهايات في مناطق عديدة، والسلام في أماكن عديدة يشهد عرقلة الجهود لحل المشكلات الصعبة، وتدعيم إجراءات إعادة بناء الثقة بقواعد النظام الدولي القائم. كان كل ما يريده المشاركون الحفاظ على "الستاتيكو"، الذي كان قائما كما هو، مستقلّاً عن التحوّلات، جيوسياسية كانت أو جيواقتصادية، والحفاظ على أنماط حياة في عالم منفصم عن الوقائع، وعن تحولات عميقة في أمور كثيرة تناقض شعار الملتقى في الخيارات بين الحرب والسلم، وتعزّز من صعوبة ترميم هذا الشعار وإنفاذه.

دفعت إسرائيل ثمناً أخلاقياً واستراتيجياً خطيراً لدورها في ما ترتكبه من جرائم إبادة إنسانية بحقّ الفلسطينيين، ويتحسّس حلفاؤها الرئيسيون أدوارهم في الكارثة، والتواطؤ الدائم معها في سعيها إلى تقويض المسار المأمول نحو السلام، ومعارضة بنيامين نتنياهو حلّ الدولتين، هي النجم الذي يهتدي به في مسيرته السياسية برمتها.

كان منظّمو الملتقى استبقوا أعماله باستبانة 1600 خبير حول المواضيع الأكثر أهمية على المديين القريب والمتوسط، واحتل موضوع التغيّر المناخي المرتبة الأولى، وجاء الذكاء الاصطناعي وتأثيره على صحّة المعلومات في المرتبة الثانية. ثمّ الخشية من التناقضات الاجتماعية، وانخفاض مستوى المعيشة والتضخم والركود الاقتصادي. والغريب، لم تسجّل المؤشّرات الاستطلاعية خوفا رئيسا من الحروب (مرتبة متأخرة). وقد جرى الكشف عن النتائج المأساوية للحرب الإسرائيلية التوحشيّة على غزّة مع استمرار الحرب الأوكرانية، وتداعيات ذلك على الاستقرار والاستثمارات وعلى الخلل في بنية الأنظمة الديمقراطية نفسها، ففقد "دافوس" فعاليته في معادلة الفاعلين السياسيين والفاعليين الاجتماعيين (بورتو أليغرو) في دوامة الأوضاع والغرق في مستنقع المشكلات، وأخطرها الحروب المتنقّلة شرقاً وغرباً. لم يكن ممكناً في المؤتمر تشتيت المشاعر تجاه ما يجري في غزّة من جرائم، وتحدّي الصور وسماع الأخبار في مناطق النزاع، من النوع الذي اتّصف به الادعاء السويسري على الرئيس الإسرائيلي إسحق هرتسوغ، وعلى مسافة قريبة من حقيقة أن جنوب أفريقيا هي التي رفعت قضية فلسطين إلى محكمة العدل الدولية، وبما لا يغيب عن بال أحد أنها رمز لحقبات الاستعمار والاستيطان والفصل العنصري والظلم واسع النطاق. دعوى لاقت أصواتا مؤيدة لها، وأزعجت حلفاء إسرائيل الغربيين.

نظرة تفاؤلية لا تخفي طبيعة أنّ الذكاء الاصطناعي لن يتمكّن من التنبؤ بما سيفعله البشر غداً

انتقل الحدث الفلسطيني إلى دافوس. لم يستطع المؤتمرون ومنظّمو المؤتمر تجاهل ما يجري من تدمير وقتل وتهجير. ليس دافوس مجرّد تلاقٍ لخدمة نظام طبقي أو خدمة قضايا استثمارية في وضعٍ يضع الحاضرين الممثلين لدولهم أمام أسباب حقيقية، تعمل لتقويض أنظمتهم ومؤسّساتهم الحقوقية، أو تجاهلها، ما يؤدّي إلى فقدان مصداقيتهم في غياب أي إجراءاتٍ ذات معنى من القادة السياسيين، وعرقلة الجهود الآيلة إلى وقف إطلاق النار، سواء في غزّة أو أوكرانيا، فالعالم يتّجه إلى رعب كبير والجميع سيقف خاسراً في النهاية مع استمرار الصراع وامتداده إلى دول أخرى.

حاول الملتقى في خمسة أيام إحياء عالم رأسمالي يحتاج إلى نوع من المساواة أكثر مما كان عليه في الماضي، وفي مرحلة انهيار حقبة كاملة من الهيمنة الأميركية، وتصدّعات كبرى تهدّد بانهيارات في نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية وما بعد الحرب الباردة، ما يعيق عناوين الحوار في لحظة سياسية تتوجّه فيها الاقتصاديات الكبرى، مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والهند وباكستان وبنغلادش، إلى صناديق الاقتراع. أمور كثيرة تتعرّض لتزوير الحقائق في المنطق الغربي الذي بدأ يضعف، وقدرته على الإقناع تتضاءل في عالم متعدّد الأقطاب. وفشلت محاولة إسرائيل في دافوس الدفاع بأنها تشنّ حربا في غزّة للدفاع عن نفسها ضد حركة حماس، ولاحقت صور جرائمها رئيسها في المنتدى، وفقدت مكانتها المعنوية.

تقرّ بلدانٌ نامية عديدة بأن خزائنها المالية تتعرّض للضغوط وسط ارتفاع تكاليف الغذاء والطاقة وارتفاع تكاليف الاقتراض

على الجانب الآخر من أعمال الملتقى، برز القلق من الطفرة الطارئة من الذكاء الاصطناعي، التي تشكل ضغطا على المجتمعين، وموضوعاً رئيسياً هذا العام مع تشكيل مجموعة من اللجان المتخصّصة بهذه الثورة التكنولوجية التي تعبر عن التصور الجديد للزمان والمكان، ولم تقلص المسافات، بل حذفتها. وقد صنّف مسح للمخاطر نشره المنتدى الاقتصادي المعلومات الخاطئة والمضلّلة التي ينتجها ويحرّكها الذكاء الاصطناعي، ويتسبّب بكثير من الإثارة بقدر ما يثيره من قلق، كأكبر عوامل الخطر في العامين المقبلين، لجهة العلاقة بين المعلومات المزيّفة والاضطرابات الاجتماعية، إلى جانب أزمة الديون الكارثية والتباطؤ الاقتصادي، والتدهور في المناخ، فالذكاء الاقتصادي يمثل الثورة الجديدة التي ستغيّر قواعد اللعبة والتي تنظر إليها الشركات فترة طويلة.

يريد الجميع الذكاء الاصطناعي ليضمّ البيانات والجزئيات الجديدة وتشريع الاختبارات، فتتأثر جميع الصناعات، حتى النشاطات في عملية مكافحة الفساد ستعتمد الذكاء الاصطناعي لتبديد الدوائر غير المشروعة (المكسيك). هذا الاهتمام بالذكاء الاصطناعي سببه الإنتاجية. يجب أن يولد مكاسب إنتاجية بقيمة أربعة آلاف مليار دولار بحلول العام 2030، عبر تصاميم الجزئيات أو إنتاج سيارات في نصف الأوقات، أو التأثير على التوظيف، أو من خلال التدريب على استخدام مليارات البيانات. نظرة تفاؤلية لا تخفي طبيعة أنّ الذكاء الاصطناعي لن يتمكّن من التنبؤ بما سيفعله البشر غداً.

حاول الملتقى إحياء عالم رأسمالي يحتاج إلى نوع من المساواة أكثر مما كان عليه في الماضي

أرسلت الدول الغنيّة والقوية وفوداً كبيرةً الى المنتجع السويسري لتعميق التعاون في مواجهة ضغوط، ولتقديم حلول جديدة لتحدّيات ارتفاع معدلات التضخّم ومخاوف الركود والتأهب للأوبئة والتغير المناخي (غالبا على حساب البلدان الصغيرة التي تحاول أن تنجح في الاقتصاد العالمي). وتقرّ بلدانٌ نامية عديدة بأن خزائنها المالية تتعرّض للضغوط وسط ارتفاع تكاليف الغذاء والطاقة وارتفاع تكاليف الاقتراض (كانت جدولتها على رأس جدول أعمال القادة الأفارقة)، لكن أي توتر يؤثر على لغة المستثمرين. والعالم يواجه أزمة طاقة، أزمة مديونية وأزمة جوع عالمية. ومزيد من الألم يسيطر على العالم وسط توقّعاتٍ اقتصادية واستثمارية متدهورة بسرعة في ظل مؤشّر تباطؤ النمو الاقتصادي وتكاليف المعيشة وارتفاع أسعار الفائدة. واليوم يعيش 3.3 مليارات شخص في بلدانٍ تنفق على مدفوعات الفائدة أكثر مما تنفقه على التعليم والصحة.

لا تتعلق المسألة بشعار الملتقى كمركز حيوي ونابض في العلاقات الدولية، إنما تتعلق بالفرص المالية والمستقبلية، وخصوصا العائد الديموغرافي والديمقراطي، في ظل العودات المتتالية الى الماضي والحنين الى الديكتاتوريات والعنف والانقلابات والمجازر والإبادات وإهدار أرواح المدنيين في حروبٍ تلغي مساحة الإنسانية، بدل إطلاق العنان للقوى العاملة في المستقبل وفي السلام، فالعالم مبتلٍ بأوبئة أخرى غير التي يجري التأهّب لها.

يقظان التقي
يقظان التقي
إعلامي وأكاديمي ومترجم لبناني، له عدد من الكتب، دكتوراة في الدبلوماسية والعلاقات الدولية.