المغرب وفرنسا ... مشكلة مصالح أم أزمة نخب؟

المغرب وفرنسا ... مشكلة مصالح أم أزمة نخب؟

19 فبراير 2023
+ الخط -

أنهى المغرب رسمياً، وبشكل فعلي، مهام سفيرِه لدى فرنسا، محمد بنشعبون، بعد مضيّ حوالي أربعة أشهر فقط على اختيار الرباط قاعدة المعاملة بالمثل، حين عُيِّن ممثل الدبلوماسية المغربية هناك، في منصب المدير العام لصندوق محمد السادس للاستثمار، ردّاً على مغادرة السفيرة الفرنسية، هلين لوغال، منصبها، نحو مهمةٍ جديدةٍ في الإدارة الخارجية للاتحاد الأوروبي في بروكسل، ما يؤكّد استمرار أزمة دبلوماسية غير مسبوقة بين البلدين، تعود بدايتها إلى صيف 2021.

قرار إعلان شغور التمثيلية الدبلوماسية للرباط في باريس اعتُبر سابقة من نوعها في تاريخ العلاقات بين الطرفين، ما يدحض مزاعم شاعت عن نهاية مسلسل الجفاء، بوأد الخلاف ورأب الصدع بين الشريكين، خصوصا بعد حضور وزيرة الخارجية الفرنسية، كاترين كولونا، إلى الرباط في زيارة عمل، منتصف شهر ديسمبر/ كانون الأول الماضي، بغية إنعاش الشراكة الاستراتيجية بين الحليفين التقليديين، والتحضير لزيارة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، المغرب.

زيارة طال انتظارها، على مدار الأشهر الماضية، إذ سبق أن وعد ماكرون، بعد عودته من الجزائر، شهر أغسطس/ آب الماضي، بزيارة المغرب في شهر أكتوبر/ تشرين الأول، من دون أن يفي بوعده. وتجدّد الحديث عن الزيارة، بالتزامن مع وجود ممثلة الدبلوماسية الفرنسية في الرباط، حتى قيل إنّ التحضير لها، مطلع العام الجاري، من أسباب قدومها إلى المملكة. لكن، وحتى اللحظة، لم تتحقق زيارة يُتوقع لها أن تكون المفتاح السحري لأزمة مستعصية، لم تفلح دعوات رؤساء سابقين (فرانسوا هولاند)، ولا رجال سياسة (فانسان دولاهاي)، ولا حتى مثقفين (الطاهر بنجلون) في الدفع بالطرفين نحو تجاوز سوء الفهم. ولا يُتوقع حدوثها على الأقل في المدى القريب، ولا سيما بعد واقعة سحب التمثيل الدبلوماسي في باريس، التي فُسِّرت بأنها ردّ على قرار البرلمان الأوروبي (غير الملزم) بشأن أوضاع حقوق الإنسان في المغرب، وعلى وجه التحديد، مسألة التضييق على حرية التعبير وملاحقة الصحافيين، فاعتماد هذا القرار، بحسب الرباط، وعلى نطاق واسع، إذ حظي بتأييد 356 من أصل 430 برلمانياً، ما كان ليحدُث لولا التحرّك القوي لرئيس مجموعة رينو ومهندس القرار الأوروبي، ستيفان سيغورني، المقرّب من الرئاسة الفرنسية، في دهاليز المؤسسة التشريعية الأوروبية في ستراسبورغ.

الأزمة، بين المغرب وفرنسا، رغم طول مدتها، لم تبلغ مستوى المواجهة المباشرة بين البلدين

يُذكر أنّ باريس حاولت، أكثر من مرّة، توجيه ضربات تحت الحزام للمملكة، بعزمها على طرح تأثير ملف الصحراء بتزويد أوروبا بالطاقة في قمة الاتحاد المتوسطي، شهر سبتمبر/ أيلول الماضي، رغم عدم وجود أيّ إشارة إليه في أجندة اللقاء. فضلاً عن الحرص الدائم لطرفي النزاع، المغرب والجزائر، على استبعاد الموضوع من جدول أشغال قمم الاتحاد. تكرّر الأمر في معرض مدينة مونبولييه، بنشر المنظّمين، 11 يوماً، خريطة للعالم ضمّت كلّ الدول، مصبوغة بلون علمها الوطني، باستثناء المغرب، مع الإمعان في تمييز منطقة الصحراء المتنازع عليها بلون أزرق، وكأنها دولة.

سعت الرباط بدورها إلى اقتناص ردود ملائمة، حسب ما تجود به سياقات الأحداث، لعل آخرها تلك السابقة التاريخية التي شهدها المؤتمر الصحافي الذي جمع وزير الخارجية المغربي، ناصر بوريطة؛ بنظيرته الفرنسية؛ كاترين كولونا، على هامش زيارتها المغرب، حين ألقى ممثل الدبلوماسية المغربي خطابه بالعامية المغربية (الدارجة المحلية)، في خطوة راوحت تأويلاتها ما بين الخطأ الدبلوماسي والرسالة السياسية، حيث طلب من ضيفته وضع سمّاعات للترجمة.

فقدت العلاقات الكثير من جودتها، لكنّ الطرفين متفقان على إبقاء خلافهما تحت السيطرة. فالأزمة، رغم طول مدّتها، لم تبلغ مستوى المواجهة المباشرة بين البلدين. فضلاً عن غياب أي حديث رسمي، في الرباط أو باريس، عن الأسباب الحقيقية وراء أزمة صامتة، امتدّت سنة ونصف سنة، سوى ما يروّج من تخمينات محللين وتكهنات خبراء، تسعى جاهدة، حسب جهة صدورها، إلى انتقاء ما تراه مبرّراً، يصلح لتعزيز موقف هذا الطرف أو ذاك من الأزمة الشائكة.

أياً تكن الأسباب الكامنة وراء تعكير صفو العلاقات الاستراتيجية بين الرباط وباريس، يبقى المؤكد أنها ذات طبيعة حسّاسة، جعلت الطرفين يجنحان إلى التوتّر الصامت، مع الإحجام عن أي تصريح رسمي مباشر بشأنها، خلافاً للقواعد المعمول بها، عند كلّ تشنج، في سجل علاقات ثنائية بين بلد مستعمَر وبلد مستعمِر كانت آخرها، عام 2014، إبّان حكم الرئيس فرانسوا هولاند، فحينها دُبرت المسألة بأسلوب كلاسيكي، بدءاً من استدعاء السفير للاحتجاج، فبلاغ وزارة الخارجية المغربية، أعقبه تعليق بعض أشكال التعاون المغربي الفرنسي، انتهاءً باحتواء دبلوماسي للأزمة.

تجلّى نفاق الأوروبيين، بتسخير خطاب وقيم إنسانية كونية لتحقيق مآرب خاصة

سيناريو مفقود هذه المرّة، وذلك راجع ربما إلى طبيعة الأزمة في ذاتها. لكن، وبدرجة أكبر، عائد إلى النخب الجديدة التي التحقت بمواقع القرار في باريس، مع دخول ماكرون قصر الإليزيه. يكتشف المراقب أنّ الرئاسة الفرنسية، في السنوات الأخيرة، تفتقد رجال سياسة ودبلوماسيين متمرّسين في إدارة الأزمات وتدبيرها، فصناع القرار الدبلوماسي الفرنسي، من مستشارين وخبراء، لا يتقنون سوى صنع الأزمات وتفجيرها، كما يحدث مع المغرب، وحدث مع أكثر من مستعمرة فرنسية في القارة الأفريقية (مالي، أفريقيا الوسطى، بوركينا فاسو ...).

يكفي دليلاً على ذلك، اختيار اللعب بورقة مؤسسة تشريعية بحجم البرلمان الأوروبي، لإصدار قرار إدانة ضد المغرب بشأن قضية يعلم القاصي والداني أنها حقيقة قائمة لا غبار عليها. لكن السؤال يبقى حول سياق اختيار هذا التوقيت تحديداً، وما الطارئ الذي أيقظ، على حين غرة، ضمائر الأوروبيين لانتقاد أوضاع الصحافة بالمغرب، فمسلسل التضييق على حرية التعبير انطلق منذ سنوات، وليس وليد اليوم؟ ثم لماذا انتقاء المغرب دون غيره من دول المنطقة المغاربية؟ أم يعني ذلك أنّ الأوضاع وردية هناك وسوداء في المغرب، أم المسألة قرينة السياق لا غير؟

أسئلة كثيرة يثيرها قرار البرلمان الأوروبي، وصفوة الإجابة عنها تقود إلى الكشف مجدّداً عن نفاق الأوروبيين، بتسخير خطاب وقيم إنسانية كونية لتحقيق مآرب خاصة. كذلك تظهر بجلاء الفشل الذريع للفرنسيين في تدبير معاركهم من دون الاستعانة بالآخرين، ما يُثبت أنّ أكبر خطر يهدّد فرنسا هو افتقارها إلى رجال دولة، أما الإسلاموفوبيا والإرهاب والمهاجرون والسترات الصفراء... فمجرّد أعراض طارئة لهذا الداء العضال.

E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
محمد طيفوري

كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.

محمد طيفوري