المختبر الليبي في ميلاد الدولة

المختبر الليبي في ميلاد الدولة

13 يونيو 2023
+ الخط -

قد يبدو السؤال: كيف تتعلم الديمقراطية بعد 12 سنة حربا و10 أيام مفاوضات؟ مناسبا لمقاربة الوضع الليبي حاليا، بعد الاتفاق في الأسبوع الماضي بين فرقاء الأزمة. وبناء عليه، يبدو الليبيون على بُعد خطواتٍ لوضع أول قانون انتخابي في بلادهم، في ما يشبه التمرين البيداغوجي على استحقاقٍ تأخر اكتشافه. وذلك بعد توصل أعضاء اللجنة المشتركة المكلفة من مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة الليبيين (6 + 6) إلى الاتفاق على القوانين المنظمة للانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقرّرة في نهاية السنة الجارية في ليبيا، حيث أقرّت اللجنة بالإجماع نصوص القوانين الانتخابية، بحصول تفاهمات غير مسبوقة في هذا الملف الشائك.
قبل الارتياح، هناك جملة شرطية: سيكون الاتفاق ذا جدوى إذا وافق الأقوياء على الأرض على ما جرى الاتفاق عليه في المغرب، ثم عاد ممثل كل طرف، عقيلة صالح عن مجلس النواب وحكومته وخالد المشري عن مجلس الدولة وحكومته للتوقيع على وثيقة الاتفاق. وفي السياق العام، يبدو العالم مستعدّا لمصاحبة الاتفاق إلى حيز التنفيذ، هذا ما يستشف على الأقل من ترحيب الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقي بما تم التفاهم حوله.

كان العيب في الذين حوّلوا الربيع إلى معادلة جيوستراتيجية تريد بناء مدينة ديمقراطية فاضلة معلقة في السماء

ومعلوم أن الإشكال الانتخابي كان من القضايا المستعصية التي ظلت عالقة مند اتفاق الصخيرات (المغرب) في 2015. وبالرغم من مرور ثماني سنوات على ذلك الإطار المرجعي للحل المتوافق عليه، فإن النقاط المركزية في المعضلة ظلت مستعصية على الحل، بالرغم من قبول طرفي الأزمة (حكومتا الشرق والغرب، مجلسا الدولة والنواب)، الجلوس إلى موائد التفاوض. وبذلك ظلت الانتخابات واحدة من القضايا المتعلقة بالحل، مثل المناصب السيادية (رئيس مجلس المحاسبة، رئيس هيئة محاربة الفساد والوكيل العام للدولة…). وعليه، يعدّ حصول الاتفاق حول قوانين الانتخابات القبول بالقاعدة الدستورية للحل السياسي الشامل، الذي يمكن أن يمنح الليبيين اختيار من سيمثلهم في صناعة الدولة التي يريدونها بعد نصف قرن من الجماهيرية العظمى وعقد من الحرب الأهلية. وهو ما يشبه اكتشاف النار أو المعجلات في تاريخ الديمقراطية الشعبية في البلاد. وسيكون الليبيون أمام تجريب ديمقراطي متوافق عليه بعد 12 سنة من الحرب الأهلية.
وأمام الوعي بأن البلاد لم تكن في حاجة إلى درس في الخراب لكي تكتشف مزايا السلم في معالجة النزاعات فقط، بل كانت أيضا في حاجة إلى بلاد عربية، غربا، لكي تطمئنها إلى أن الحل التفاوضي هو أفضل طريقة للخروج من المقبرة الجماعية التي دخلها شعب عمر المختار بعد سقوط الجماهيرية الخضراء. وهذه تجريبية ديمقراطية ضرورية بالنسبة لشعبٍ يخرج من عقد من الاحتراب الداخلي، وعليه أن يقدّر حقّ قدرها فعالية السلام في صناعة البلدان التي عصف بها ربيع عربي شرس.
قليلة العواصم التي نجت بأنظمتها بعدما تسلّحت بمزيد من الديمقراطية، من ربيع سارع إلى تحوّله إلى خريف، يسقط الأنظمة ويفكّك الدول. ولم يكن العيب في الربيع بطبيعة الحال، والذي حوّل الديمقراطية إلى شرط وجود في التكوين العربي، بل كان العيب في الذين حوّلوه إلى معادلة جيوستراتيجية تريد بناء مدينة ديمقراطية فاضلة معلقة في السماء، بعد أن تكون الأرض قد دخلت جحيم الحروب وبيت الطاعة الإمبريالي في صيغته المرنة.

قبل الربيع وحروبه الأهلية، لم يكن الليبيون قد عرفوا التعدّدية

قبل الربيع وحروبه الأهلية، لم يكن الليبيون قد عرفوا التعدّدية، وكان العقيد القذافي وكتابه الأخضر يُنذران بالويلات من تحزُّبٍ قرين بالخيانة ومن أنظمة ليبرالية تشبه القيامة. وقضى الليبيون أربعة عقود في تجربة "ديمقراطية" مباشرة، لم تنتج سوى مزيد من الشعارات والحروب الخارجية وحلم قيادة العالم من داخل خيمة العزيزية. لكن السلام الأخضر كان على الاقل يضمن الوجود لدولة واسعة وغنية، وجدت نفسها في مهبّ التاريخ والتمرّد، وفي مرحلة ما قبل الولادة.
وأمامنا اليوم بالفعل درس في الطبيعة والتاريخ لشعبٍ يتعلم التعدّدية والحسم الديمقراطي عبر صناديق الاقتراع، ويجرّب "المفتاح السحري" في فتح بوابات الغد والانتقال من الحرب الأهلية إلى التوافقات. وربما انتبه الليبيون، في الوقت المعيّن، إلى أن الانتصار في حربٍ أهلية هو بحد ذاته هزيمة، وأن الجدلية المطلوبة راهنا هي جدلية الفشل، أي أن كل طرفٍ فشل في القضاء على الطرف الآخر، فقَبِلا معا الجلوس إلى مائدة التفاوض. وبذلك يصبح التوافق نفسه تمرينا عميقا لاكتساب خبرة في التنازل، بالنسبة لشعبٍ اعتبر قادته منذ الستينيات أنه غير معنيٍّ بتطوّرات الديمقراطية البرجوازية والليبرالية في العالم، وزادت الحرب الأهلية تكريس عزلته المأساوية.
في إدراك جزء من العقل السياسي الليببي ما بعد الجماهيرية، كانت الحرب الأهلية امتدادا واستمرارا للثورة ضد العقيد ونظامه، لكن الذي تبيّن أن الحرب لم تكن ليبية محضة، بل قُلْ إنها لم تكن حربا أهلية في ليبيا إلا بالقدر الذي كان الضحايا فيها من الليبيين، أما القرار الحربي فكان يؤخذ في عواصم أخرى، عربية وغير عربية. وهو ما يجعل القرار السيادي في السلام يمرّ عبر تحرير إرادة الحرب ووقفها من الأصابع التي تحرّرها من خلف الستار، وهي إرادة ستمكّننا من متابعة "ميلاد" الدولة (جهازا وليس كيانا)، في المختبر الليبي، كما لو كانت تنبت من فراغ فوق التراب وبين أحضان الناس.

768EA96E-E08E-4A79-B950-D8980EE5911C
عبد الحميد اجماهيري

كاتب وشاعر وصحفي مغربي، مدير تحرير صحيفة الاتحاد المغربية، مواليد 1963، عمل في صحيفتين بالفرنسية، من كتبه "أوفقير .. العائلة والدم.. عن انقلاب 1972"، ترجم كتابا عن معتقل تازمامارت. مسوول في فدرالية الناشرين المغاربة.