الديمقراطية بصيصُ أملٍ لفلسطين بعد صمود أبنائها

الديمقراطية بصيصُ أملٍ لفلسطين بعد صمود أبنائها

21 ديسمبر 2023
+ الخط -

صيف 1982. الاجتياح الإسرائيلي للبنان. حصار بيروت، قطع المياه، والكهرباء واللحمة، والخضار، إلا الباذنجان والبطاطا. القصف الإسرائيلي رحيمٌ على المدنيين. نفهم أن ثمّة بناية مستهدفة، فنبتعد عنها. واثقون بأن إسرائيل لن تنال منا إلا قليلاً. نمزَح، بأننا نخشى اشتباكاً بين مسلحي الفصائل الوطنية والفلسطينية، وسط الأحياء وبين المباني أكثر ما نخشى إسرائيل. نقول عن هذه الأخيرة إن طائراتها "دقيقة.... تعرف تماماً هدفها، وتصيبُه". نثرْثر على الشرفات، وفوق رأسنا الطائرات، ولا نبالي. مطمئنون، رغم أننا مهجّرون من بيوتنا، بعدما نالت إسرائيل من حجرها، فصرنا هنا، نازحين بين البنايات، يحتمي بعضنا ببعض، ومن "دقّة" الاستهدافات الإسرائيلية. ولولا مجزرة صبرا وشاتيلا، والتي لم يكن منفّذوها إلا لبنانيين من خصومنا اليمينيين... لكانت دموية الاجتياح الإسرائيلي للبنان على قدرٍ من النسبية، مقارنةً بما سيحصل لاحقاً. 
وكان واضحاً وممكناً الهدف الإسرائيلي من هذا الاجتياح: إضعاف منظمة التحرير الفلسطينية، إخراج رجالها المسلحين من لبنان، وتحويل الصراع الداخلي لصالح الأحزاب اليمينيّة المتحالفة معها. وكان ثمة فرقٌ مع ما يحدث في غزّة الآن: حكومة إسرائيل وقتها برئاسة أرييل شارون، الذي يمكن اعتباره اليوم من الحمائم قياساً إلى رئيس الحكومة الحالي نتنياهو وأعضاء حكومته الائتلافية من اليمين الديني المتطرّف. وبعض أعضائها يلومون شارون اليوم على انسحابه من غزّة قبل 18 عاماً. والمجتمع الإسرائيلي أيضاً، كان صوته حاشداً وقوياً في معارضته هذه الحرب؛ ينظّم تظاهرات ضخمة تطالب الجيش الإسرائيلي بوقفها (والبقية معروفة: عملية سلام أدّت إلى اتفاق أوسلو الذي أجهضه الطرفان). 
أما الشبه الضئيل بين الأمس واليوم، فهو تدخّل الرئيس الأميركي رونالد ريغان، وقتها، بطلب من رئيس الوزراء اللبناني، بمدّ بيروت بالمياه، بعد قطعها، وقد نفِّذ هذا الطلب على الفور. فضلاً عن إرساله مندوباً، من أصول لبنانية، فيليب حبيب، للتفاوض حول تفاصيل انسحاب الفصائل الفلسطينية من لبنان. اليوم، الحرب على الفلسطينيين في غزّة، ما هي أهدافها المعلنة؟ نسف البنية العسكرية واللوجستية لحركة حماس، طردها من القطاع، اغتيال القادة الحمساويين في غزّة، وملاحقة الباقين خارجها. ولم تنجح إلا بتدمير غزّة وأهلها، وإطلاق سراح بضعة رهائن، فبقي 130 منهم في قضبة "حماس".

العرب الإسرائيليون لا يحقّ لهم التصدّي لهذه الحرب، ولا حتى طرح التساؤلات أو إبداء الشكوك

ولولا التظاهرات المئوية التي ينظمها أهالي الرهائن المتبقين، في "ساحة الرهائن" في قلب تل أبيب، فإن هذه الحرب تنفرد عن حرب 1982 بأنها تلاقي إجماعاً تامّاً من المجتمع الإسرائيلي. حرب غسل الأدمغة بالأكاذيب الإعلامية اليومية التي لا تلبث أن تنفضح. حربٌ لا تجد من ينتقدها، كما كان يحصل سابقاً، إلا بضعة صعاليك يسمعهم الخارج أكثر من الداخل. حربٌ يوافَق عليها بالإجماع، ولا من يرفض خدمتها. إجماعٌ يصل إلى حدّ التصادم بين أهالي الرهائن والحكومة التي يتّهمونها بطغيان الاعتبارات العسكرية عندها على المشاعر الإنسانية والوطنية تجاه مسألة الرهائن لدى "حماس". ومن الطبيعي ساعتها أن تختلف الحرب على غزّة عن الغزو للبنان قبل 40 عاماً، من كونها إبادة ملْحمية.
طبعاً، يجب استثناء العرب الإسرائيليين من اللائحة. إذ لا يحقّ لهم التصدّي لهذه الحرب، ولا حتى طرح التساؤلات أو إبداء الشكوك. وهم معرّضون لخطر رسمي، أهلي و"جماهيري". صمتهم إلزامي، وإلا فاعتقال تعسّفي. وشبح نكبةٍ ثانيةٍ يحوم بينهم. يعلق محلِّل إسرائيلي على هذا المناخ: "في روسيا بوتين، تصدر تعبيرات عن مقاومة الحرب ضد أوكرانيا، أكثر مما يصدر عن الحرب في غزّة تقودها حكومة تدّعي أنها ديمقراطية". هذا هو بالضبط ما تعاني منه إسرائيل، أنها أصبحت ناقصة الديمقراطية، مثل روسيا. 
وروسيا هذه، التسلّطية، كيف تتعامل مع الحرب على غزّة؟ رئيسها بوتين "صديق" الفلسطينيين، أبدى استعداداً ليكون "وسيطاً" بينهم وبين إسرائيل. و"حماس" كرّمته عندما أطلقت سراح رهينة إسرائيلي - روسي. قبل ذلك، يستقبل بوتين وفداً منها، يطلق الاستنكارات ضد إسرائيل، يدين مذابحها، ويقف ضدّها في مجلس الأمن، بصفته "مناهضاً للإمبريالية الأميركية".

الأردنيون وحدهم خرقوا الخلاف مع حكّامهم، وتدفق منهم مئات الآلاف إلى الشوارع دعماً لغزّة

الفعل الوحيد الذي خرج من المدار الروسي كان من أهل داغستان، وغالبيّتهم مسلمون، منذ شهر تقريباً، عندما هاجم مئات من الغاضبين منهم مطار عاصمتهم، يقتحمون صالته بحثاً عن "يهود" يمرّون عليه "ترانزيت"... بالنتيجة، أوقف العشرات منهم، ولم يُعرف مصيرُهم، واعتبر المتحدّث الرسمي باسم الكرملين أن هذه الصدامات داخل المطار "كانت في جزءٍ كبيرٍ منها نتيجة تدخل خارجي". ووصفها بوتين لاحقاً بأنها "محاولات الغرب استخدام أحداث الشرق الأوسط ليقسِّم المجتمع الروسي". 
أما توأم بوتين، أي الرئيس الصيني شي جين بينغ فيبدو بعيداً شارداً، رغم التوسّلات... ربما أولوياته الاقتصادية. وإذا كان الشعب الروسي غائبٌ عن حرب غزّة، وحاضر في حرب أوكرانيا، فإن الشعب الصيني متوارٍ عن الأنظار في الحربين.
الباقون حظوظهم متفاوتة الحضور. الأردنيون وحدهم خرقوا الخلاف مع حكّامهم، وتدفق منهم مئات الآلاف إلى الشوارع دعماً لغزّة. والعمل الوحيد الذي أنجزته حكومتهم تلك الطائرات المحمَّلة مساعدات لأهالي غزّة، المسمّاة "إنزال جوي"، وجديدها أخيرا كان بقيادة الأميرة سلمى، ابنة الملك. غلبَ التعبير الأردني، بسبب تركيبته السكانية، ولكن فعله كان رمزياً وحسب.
منعت سورية التظاهرات المتضامنة مع غزّة. وعلى كل حال لا يمكن أن تعرف تماماً ما يدور في خلد سكانها. والهاربون منها إلى دول الغرب الديمقراطي قليلون من بينهم برزوا، أو أعطوا تركيزاً محدّداً على أهلها. الباقون من بين الدول تتفاوت حظوظهم. الشرق، حيث التسلط، والمصالح وعقود السلام القديمة والجديدة وميول التطبيع الجارفة، الحكومات لا تحبّذ تظاهرات التضامن وفعالياته إلا بحدود مبرمجة، ونوعية "خيرية". لا صوت، إذن، للشعوب الواقعة تحت حكم كهذا. 

دول الغرب، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، وجدت نفسها فجأة، مع هذه الحرب في حالة من التعارض مع شعبها

والمفارقة تجدها في دول المغرب العربي، التي يحكمها التسلّط وتمتلئ سجونها وما وراء بحارها بالمعارضين لها... أي تونس والجزائر والمغرب. الأولى، يحكُمها رئيسٌ شعبوي، منقلبٌ على برلمان منتخب، يستمدّ "شرعيّته" من صوته العالي بفلسطين، كما سبقه إليها غيرُه. فسمح بتظاهرات التأييد لغزّة. الجزائر "متقدّمة" على تونس بحكم العسكر الذي يجد في فلسطين كنزاً ثميناً، فكانت أيضاً التظاهرات والحشود. فيما المغرب، الذي يُعرف شعبه بحبّه فلسطين، "البعيدة"، كما يقول الملك، صاحب القرار الأوحد، يجد بأنه لا بد من إطلاق حرّية التعبير عن فلسطين، وإن كان ذلك يعارض سياسة التطبيع التي انتهجها أخيرا، ولكن لم يصدُر عن حكّام الدول الثلاث أي قرار ملموس أو مبادرة، أو نشاط ديبلوماسي أو أي شيء يساهم في بلورة طريق الحرب... لم يفعلوا شيئاً، سوى ترك شعوبهم تعبّر عن عواطفها الفلسطينية الجيّاشة.
إيران وتركيا على الغرار نفسه. حكومات تسلّطية، شعارها وذريعتها فلسطين. الأولى، إيران، أكثر تورّطاً بالشعار من الثانية، أكثر تسلّطاً منها. لديها الوقت الكافي لتعدم عشرات من الشباب وتنظم تظاهرات التأييد لغزّة، وتحرِّك أذرعتها الحوثية والحزبلاهية. أما الثانية تركيا، فرئيسها لا يقلّ حدّة ضد إسرائيل وأميركا، يُطلق التصريحات، ويقود تظاهراته الفلسطينية. وفي البلدين، تأييد فلسطين مؤطَّر مبرْمج منظَّم. بإشراف الرئيس. فتكون التظاهرات هذه ذات لون واحد: الأسْوَد في إيران والأحمر في تركيا. 
دول الغرب، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، وجدت نفسها فجأة، مع هذه الحرب في حالة من التعارض مع شعبها. أوروبا أقلّ من كندا ونيوزلندا وأستراليا، الذين دعوا، منذ أيام، إلى وقف إطلاق النار في غزّة. بعدما كانوا في البداية على تأييد تام لسياسة إسرائيل، تدرّجت مواقفهم، إلى أن لبّوا بعض ما تطالب به التظاهرات العارمة في شوارعهم: وقف الحرب على غزّة. 

لم تجد الحكومة الأميركية بدّاً من تغيير نبرتها تدريجياً، ثم مواقفها. الانتخابات على الأبواب، ومؤيدو فلسطين يحلفون أنهم لن يصوّتوا لبايدن

خذْ مثلاً: الرئيس الكندي جاستن ترودو، جالس في المطعم، يتّجه صوبه ما يقلّ عن عشرة شبان وشابة، يؤنّبونه على تأييده إسرائيل، كيف يقتلون الأولاد ... إلخ. في اليوم التالي، يطلق تصريحاً ضد قتل الأطفال في غزّة، يردّ عليه نتنياهو بعنف، فـ"يوضح" ترودو... وبعد ذلك، يكون البيان الثلاثي الأخير، مع نيوزلندا وأستراليا، لوقف الحرب.
لكن التعارض بين سياسة الحكومة والرأي العام كان على أشدّه في الولايات المتحدة. أكثر التظاهرات عدداً وكثافة، أقوى الأنشطة الإعلامية الثقافية التضامنية، الفنية والثقافية... بتنوّعها وميولها المختلفة وشخصياتها الأبرز. كلها تجد موقف حكومتها مُخزياً، تطلق عبارات العار على رئيسها، يدعمها موظفون داخل البيت الأبيض نفسه، والجامعات الأعرق.. وتنظمّها منظمّات شبابية فلسطينية مسلمة يهودية.
لم تجد الحكومة الأميركية بدّاً من تغيير نبرتها تدريجياً، ثم مواقفها. الانتخابات على الأبواب، ومؤيدو فلسطين يحلفون أنهم لن يصوّتوا لجو بايدن في الانتخابات المقبلة. بايدن وطاقمه الذين أبدوا، في البداية، تعاطفاً غير مشروط مع إسرائيل، "خفّفوا" من غلوائهم، وصاروا يطالبون الإسرائيليين بـ"تجنّب المدنيين"، في أثناء قصفهم غزّة... وأخذوا شيئاً فشيئاً يرفعون "النصائح"، الواحدة بعد الأخرى، من الأكثر تلميحا إلى الأوضح... وهكذا، حتى وصلوا في هذه اللحظة إلى وضع مدةٍّ لإنهاء الحرب. ما أقلق إسرائيل، وجعل بعض قادتها يعيدون ويؤكّدون أن هذه الحرب ستدوم أشهراً أخرى، لا شهراً إضافياً فقط. بفضل الأميركيين، لم يعُد الوقت لصالح إسرائيل. ومن دون دعم أميركي، أو حتى "التخفيف" من هذا الدعم، تُصاب قدرات إسرائيل في الصميم (الذخيرة التي نفدت... واستغاثة إسرائيل لأميركا بأن بمدّها بها...). والباقي... هل صار مُمكناً تصوّره؟
الديمقراطية من هذه الزاوية، على عيوبها ورداءة زمنها الحالي، والتفوّق الجيوسياسي للاستبداد عليها، هي بصيص أملٍ لفلسطين، بعد صمود أبنائها.