الدولة العربية على المحك

12 يوليو 2014

عناصر ميليشيا مناهضة للحكومة في بنغازي (يونيو/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

عرف العالم، في العقود الأخيرة، صعوداً قوياً للفواعل ما دون الدولة (جمعيات، حركات سياسية، مجموعات إرهابية، منظمات الجريمة المنظمة...). وليست المنطقة العربية مستثناة من هذه الظاهرة، لكنها تتميز عن غيرها بالنشاط القوي لبعض هذه الفواعل، مثل التنظيمات الإرهابية، الميليشيات والحركات السياسية والعسكرية.

وهذا دلالة على هشاشة الدولة العربية وانكشافها، وعلى أزمة شرعيتها، وهي دولة فاشلة ورخوة في غالب الحالات. وإذا استثنينا الحالة الفلسطينية لغياب الدولة، ما يسمح بوجود حركات قوية، مثل حماس، والحالة اللبنانية المتأرجحة بين نماذج فرعية لعدم الاستقرار المزمن، فيبدو حزب الله دولة في دولة (مقابل الدولة الهشة أصلاً)، فإن ظاهرة تصلب عود الحركات ما دون الدولة يخص، اليوم، دولاً كانت، حتى وقت قريب جداً، من بين أكثر الدول العربية مركزية، ونقصد العراق وسورية.

ولدينا، اليوم، ثلاثة نماذج في العالم العربي، تضع فيها هذه الفواعل وجود الدولة على المحك، يعتبر الأول والثاني من نتائج الربيع العربي في شقه المتعثر، أما النموذج الثالث فهو وليد الاحتلال الأميركي.

ففي المغرب العربي، تواجه الدولة الليبية، الهشة البنيان أصلاً، مليشياتٍ، أصبحت دولة في دولة، تملي إرادتها على الدولة، وتشاركها، إن لم نقل، خطفت منها احتكار استخدام القوة الشرعي، ما أفقد الدولة الليبية أهم المقومات لأداء وظيفتها السياسية والأمنية. وبلغ تغول المليشيات مستويات عالية، إلى درجة أنها تؤثر بقوة السلاح على صياغة قوانين ليبيا "الجديدة". وتتداخل في النموذج الليبي عوامل عدة، جعلت قوى إرهابية، أصلاً، تلج الساحة السياسية من بوابة "الثورة"، حيث نجحت في انتزاع شرعية سياسية من غيرها من التيارات، لكنها فشلت في استحقاق السياسة الأهم: الانتقال من العمل المسلح إلى العمل السياسي الشرعي، في إطار دولة مدنية.

أما النموذج الثاني فهو السوري، ويختلف عن الليبي، لكنه يشبهه في بعض جوانبه، وتحديداً من حيث دخول جماعات إرهابية معترك الحرب على النظام، لتنتزع، هي الأخرى، اعترافاً بها من الغير، وفق مقولة خاطئة "عدو عدوي صديقي".

لكن التوافق السياسي كان ظرفياً وتكتيكياً من الجانبين، وسرعان ما انهار، ليترك المجال لصراع معقد، يتسم بتحالفاته القلقة، وباختراقه من قوى إقليمية (عربية وغير عربية) ودولية.

والنتيجة أن الدولة لم تعد تحتكر الاستخدام الشرعي للقوة، بل تنافسها في ذلك حركات متصارعة فيما بينها، ومناوئة في جلها للنظام. وهذا ما زاد المشهد السوري تعقيداً، فبعد أن كان ثنائي القطبية (النظام مقابل الجيش الحر)، تحول إلى مشهد تسيطر عليه فسيفساء من تنظيمات عسكرية، يبدو أن الغلبة فيها للمجموعات السلفية والجهادية.

وإذا كانت ليبيا معزولةً بعض الشيء، في جوارها الإقليمي، على الرغم مما تتسبب فيه من متاعب أمنية جمة لجيرانها، فإن انتقال العدوى الجهادية بقيت محدودة بعض الشيء، لأن دول التخوم، باستثناء مالي، ما زالت تتحكم في الأمور في مواجهة الفواعل ما دون الدولة، فإن الأزمة السورية تتطور في بيئة إقليمية غير مستقرة أصلاً. فكان الامتداد لا مفر منه شرقاً نحو العراق، وغرباً نحو لبنان.

النموذج الثالث هو العراقي، أين أوجد الاحتلال الأميركي الأرضية الخصبة، لتجذر قوى مقاومة للاحتلال وللقوى العراقية المتعاملة معه، ولحركات إرهابية لها أجندتها الخاصة، ما أدخل البلاد في حرب أهلية. لكن، لم يكن الاحتلال الأميركي الوقود الوحيد للفواعل ما دون الدولة في العراق، بل هناك وقود آخر، أكثر التهاباً، هو الطائفية. حيث انتقل العراق من تسلطية جاثمة على صدر شعبه إلى حكم هجين طائفي-تسلطي، يستند، أيضاً، إلى قوى ما دون الدول، لفرض سلطانه، ومنها جماعة الصدر التي أصبحت قراراتها أهم من قرارات حكومة بغداد.

أما في شمال البلاد، فإن الفاعل الكردي تمكن من فرض شرعيته السياسية على حكومة بغداد التي أصبحت بين فكي كماشة: نزعة عرقية، استقلالية شمالاً ونزعة طائفية جنوباً. لكن هذا المشهد الواضح حجب الرؤية بعض الشيء، لوقت قصير، عن وضع سنة العراق (نزعة طائفية مضادة)، وموقعهم من الجدل-الصراع السياسي في البلاد، حيث انتفضوا على حكومة المالكي التي تستهدفهم باستمرار. هكذا، اكتملت الصورة، وتوفرت كل الشروط لولوج الجماعات السلفية والجهادية المشهد السياسي-العسكري في العراق مجدداً. ولتؤكد أن الفواعل ما دون الدولة أقوى في عراق ما بعد الاحتلال من الدولة (العراقية).

وبحكم العلاقات التاريخية والمتداخلة بين بلاد الشام وبلاد الرافدين، فإن الامتداد الجغرافي لعدم الاستقرار تحصيل حاصل. في هذه الظروف المواتية، ظهرت داعش في سورية، ثم في العراق، لتصبح، في ظرف قصير، من أهم الفواعل ما دون الدولة في المنطقة العربية. لكن المشهد مرشح للتغيير والتعقيد، فليس مستعبداً أن تظهر الصحوات السنية مجدداً لقتال داعش، كما قاتلت القاعدة في السابق، وقد تقاتل، أيضاً، نظام المالكي في الوقت نفسه. كما أنه ليس مستبعداً أن تنطوي جماعات تنشط في ليبيا تحت لواء داعش التي ستصبح ثاني كتلة جهادية متعددة الجنسيات، بعد تنظيم القاعدة. وهذا ما يجعل الفواعل ما دون الدولة تتحول إلى فواعل ما فوق الدولة، بسبب هذه السلفية الجهادية العابرة للأوطان.

تختلف الفواعل ما دون الدولة، السائدة حالياً في الساحة العربية، من حيث الطبيعة. فإذا كان من الممكن أن نضع جماعاتٍ تنشط في ليبيا وداعش السورية والعراقية وجبهة أنصار السنة ضمن فئة الجماعات السلفية الجهادية، فإن جماعة الصدر العراقية ليست من الفئة نفسها، لكنها تشكل فاعلاً قوياً ضمن الفواعل ما دون الدولة التي تضع وجود الدولة العراقية على المحك.

ويختلف وضع حزب الله وحماس عن هذه الفواعل، نظراً للمواجهة مع إسرائيل. وربما الأهم، هنا، أن حماس وحزب الله يقاومان إسرائيل بشكل لم تجرؤ عليه أي دولة عربية، بل إن حزب الله، كفاعل ما دون الدولة، انتصر في حرب ضد إسرائيل في 2006، وهو إنجاز لم تحققه الدول العربية ولو مجتمعة. وهذا ما يعطي ثقلاً لهذه الفواعل يفوق ثقل الدول العربية النافذة. لكن تورط حزب الله في المستنقع السوري يفسد العلاقة مع إسرائيل معياراً للتحليل. وعلاقته مع نظام الأسد في سورية تجعله في وضع أقرب إلى وضع جماعة الصدر في علاقتها مع نظام نوري المالكي في العراق. بيد أن الشرق معقد كالعادة، فتموقع داعش في سورية، وعلاقاتها بالنظام، تبين أن الطائفية، معياراً للتحليل، لا تصلح دائماً، على الرغم من التسويق السياسي والإعلامي للمفعول الطائفي من بعض القوى الإقليمية.

بغض النظر عن مواقف الأطراف المتناحرة في هذه الحروب الأهلية العربية المحلية، وفي هذه الحرب الأهلية العربية الكبرى (انخراط دول عربية في صراعات داخلية في دول عربية أخرى)، فالنتيجة واحدة: انهيار الدولة العربية في بيئة إقليمية، تبقى فيها درجة انتقال العدوى مرتفعة نسبياً، مقارنة بمناطق أخرى في العالم. ومن هذا المنظور، إن مصائب قوم ليست بالضرورة عند قوم فوائد. وفي حروب داعش والغبراء عبرة لمن يتقي.