الدبلوماسية الفرنسية وتجريب المجرَّب في لبنان

29 يونيو 2023

نبيه برّي مجتمعا بالمبعوث الفرنسي لودريان في بيروت (21/6/2023/فرانس برس)

+ الخط -

غريب جدًا إصرار الدبلوماسية الفرنسية على إعادة انتاج الحلول الانقاذية للنظام المعطوب، وقواه الناهبة، في لبنان. والغريب أكثر إصرارها على تكرار (وتجريب) الطريقة ذاتها التي لم تصل إلى أي نتيجة، ولم تأت بأي حلول في السنوات الأخيرة، فتحاول مرّة جديدة معالجة المشكلة نفسها بالطريقة ذاتها بعد كل المرّات الفاشلة. والأغرب من هذه وتلك الإصرار على إغفال حقيقة أن الحلول التي كان يمكن أن تأتي ثمارها في بدايات الانهيار، من الصعب أن تؤدِّي إلى النتيجة المرجوّة مع تجذّر الانهيار اليوم، إذ باتت تلك الدبلوماسية لا تكرّر الحلول الفاشلة فحسب، بل الحلول التي أكل الدهر عليها وشرب أيضًا. علمًا أن كل منهجيات العلم تؤكّد، وفي نسخاتها كافة، وعلى مختلف مستوياتها، أن الضرورة تقتضي تغيير طريقة المعالجة عندما تصل إلى حائط مسدود، فكيف بالأحرى إذا ما كانت تتكرّر، وعلى النحو ذاته، منذ سنوات؟ وكيف إذ ما كانت فرنسا ذاتها لم تلمس أي تقدّم ملحوظ في سير الحلول التي طرحتها، بل ترى المشكلات تزداد تجذرًا والبلاد تتقهقر إلى الخلف بوتيرة تتسارع يوميًا؟

فمن الذي تعانده فرنسا في هذه المحاولات؟ هل تعاند البنية الطائفية السياسية الأيديولوجيّة اللبنانية غير القادرة إلا على إنتاج المشكلات، فتتوقّع من الطاقم السياسي اللبناني أن ينتج الحلول للمشكلات التي يصرّ هو على الإبقاء عليها؟ أم تعاند الشره الذي يهيمن على مقاربات الساسة في لبنان؟ أم لربما تحاول فرض نظام من المصالح يتناقض مع النظام المصلحي الذي استطاع الأميركيون فرض تسوية ترسيم الحدود البحرية اللبنانية مع كيان العدو الإسرائيلي من خلاله، وبرضى القوى اللبنانية، وفي مقدمتهم حزب الله؟ فما الذي أنجح المبادرة الأميركية في هذا الملفّ، وأفشل المبادرات الفرنسية المتلاحقة في غيرها من الملفات؟

 الدبلوماسية الفرنسية لا تكرّر الحلول الفاشلة فحسب، بل الحلول التي أكل الدهر عليها وشرب أيضًا

في السياق، تتناقل الأخبار أن الدبلوماسية الفرنسية ممثلة بالمبعوث الرئاسي، جان إيف لودريان، ما زالت تدور في مكانها في مقاربة الملف اللبناني، مكرّرة بذلك سنوات من الجهد والفشل المستمرّين. علمًا أن الطبقة اللبنانية الحاكمة لطالما تعاملت بفتور مع المبادرات الفرنسية المماثلة في الآونة الأخيرة، خصوصًا التي تصبّ في إعادة انتاج نظام الطبقة اللبنانية الحاكمة نفسها. كما أن الدبلوماسية نفسها كانت قد أدركت رفض معظم اللبنانيين، وقلة ثقتهم، بأي حلولٍ تنطلق من الإبقاء على الطبقة الحاكمة نفسها، ليس فقط أيام انتفاضة تشرين، بل في فترات لاحقة كان في مقدمتها ما شهده الرئيس الفرنسي ماكرون، وبشكل مباشر، في زيارته بيروت على خلفية انفجار مرفئها، حين كان اللبنانيون الموجودون في محيط المرفأ يتصدّون لكل مواكب القيادات اللبنانية الرسمية التي كانت تحاول معاينة مكان الانفجار.

ففي كل هذه المرّات، كانت الذهنية الفرنسية تصطدم بجدار إسمنتي لم تستطع خرقه إلا حين استطاعت مع بقية القوى الدولية فرض إجراء الانتخابات النيابية. على الرغم من أن الانتخابات لم تقدّم أي جديد بعد حوالي السنة والشهرين من إجرائها، بل نرى أن المجلس الذي أنتجته يعيد إنتاج التعطيل. وهو ما كان معروفًا سلفًا في ظل انتخاباتٍ تقوم بها، وتشرف عليها، الطبقة الحاكمة، وبالقانون الذي يناسبها، وبأدوات الترهيب والترغيب وشراء الذمم، وبأدوات الفرز التي عيّنتها، فها هي تعيد إنتاج العطب، سواء في الملف الحكومي البارحة، وفي الشأن الرئاسي اليوم، وفي أي شأنٍ في المستقبل.

لقد وصلت الدبلوماسية الفرنسية إلى كل ما كانت ترفض رؤيته، حين أعلن مصدر دبلوماسي فرنسي أن "قادة لبنان أتعبوا المجتمع الدولي في النهاية"، وذلك في سياق استكمال التعب الذي يواجهه البنك الدولي وبقية المؤسّسات الدولية المفاوضة مع الوفود اللبنانية، والتي لم تلمس أي خطة إصلاحية جديّة وضعتها السلطة اللبنانية لتبدأ في التخفيف من حدّة الانهيار، وتؤدّي إلى الخروج منه في المستقبل.

لم تلمس فرنسا أي تقدّم ملحوظ في سير الحلول التي طرحتها

لقد خبرت الدبلوماسية الدولية عمومًا، والفرنسية خصوصًا، الأمر نفسه الذي تصطدم به اليوم في محاولاتها المستمرّة إعادة انتاج تسوية رئاسة الجمهورية. فما الغاية الفرنسية من تجريب المجرّب، في هذا الوقت المميت، غير المساهمة في تعميق الانهيار قبل فرض شروط تسوية دولية في المنطقة بأكملها؟ شروط لم تصل إلى النتيجة المرجوّة في العرف الأميركي حتى اللحظة، إذ يبدو أن الأميركي هو الجهة القادرة على إنتاج ما يمكن إنتاجه على الساحة ومع القوى اللبنانية، خصوصًا أولئك الذين يزايدون في التصدّي لها وعلى رأسهم قوى الممانعة.

لكن، وفي سياق موازٍ، وعلى خلاف التكرار الفرنسي المملّ، يبدو أن الجانب السعودي كان أكثر حسمًا في مقاربته، حيث نقل المصدر الدبلوماسي نفسه أن ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، لم يبدِ أي استعداد لتقديم الدعم للبنان كما في السابق، لافتًا إلى أن اجتماعه مع ماكرون في باريس في 16 يونيو/ حزيران الحالي أظهر فتورًا وإيجازًا سعوديًا في مقاربة الملف اللبناني، بالأحرى "موقفًا متجاهلًا". فهل يندرج التجاهل ضمن النتيجة المنطقية للنظرة السعودية المستجدّة إلى الملف اللبناني كجزء من تسوية تطاول المنطقة برمّتها؟ أم يمكن وضعها في سياق قراءة سعودية تتفادى فيها التخبّطات الفرنسية، قراءة يمكن القول معها إن الجانب السعودي وصل إلى حقيقة مفادها أن أي مجهود مع الطبقة اللبنانية الحاكمة مصيره الفشل، وهو بمثابة إضاعة للوقت، وأنه لا حلّ في لبنان إلا بمحاسبة القيادات السابقة واستبعادها، بما يتشابه مع بداية العهد السعودي الحالي؟

باسل. ف. صالح
باسل. ف. صالح
كاتب لبناني، أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية