التوظيف السياسي لقيامة الفلسطينيين

26 مايو 2021
+ الخط -

لم تكن قيامة الفلسطينيين وليدة حدثٍ آني، مثل مواصلة الكيان الصهيوني تهويد مدينة القدس، ومحاولته طرد فلسطينيين من مساكنهم في حي الشيخ جرّاح، أو مثل منع الفلسطينيين المسلمين من إحياء ليلة القدر في باب العامود، بما في ذلك القادمون من فلسطينيي الـ48، واقتحام الأقصى، والاعتداء على المصلّين، وإلقاء قنابل صوتية وإطلاق رصاص مطاطي داخله. انتقد قائد الشرطة هذه الممارسات، وكأنه يعمل بعيداً عن توجيهات وزير الأمن الداخلي، إيلي أوحانا، المقرّب من نتنياهو، بل كانت وليدة تراكم معاناتهم عقوداً، وقد تفاقمت في السنوات الأخيرة، وغدت جحيماً لا يُطاق.
بدأت المواجهة مع المستوطنين في حي الشيخ جرّاح في الثالث من شهر مايو/ أيار الجاري، وتصاعدت في باب العامود في السابع منه، قبل أن تمتد إلى مدن الضفة وأراضي الـ48. وقد لعب الشباب الفلسطيني دوراً بارزاً في تصعيدها وتوسيعها.
قلبت القيامة الفلسطينية الطاولة على قوى عربية وإقليمية ودولية، عملت سنواتٍ على تغييب القضية الفلسطينية، وتمييع حقوق الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال، عبر مخططي "صفقة القرن" و"السلام الإبراهيمي"، أنهت "صفقة القرن" و"السلام الإبراهيمي" المزيّف الذي استخدم ستارا للتطبيع مع الكيان الصهيوني، بينما هدفه الحقيقي تهميش القضية الفلسطينية، وفق استراتيجية الحل من الخارج إلى الداخل التي تحولت إلى نقيضها بجلب الصراع إلى داخل إسرائيل، وأعادت قضية الشعب الفلسطيني، كل الشعب الفلسطيني، في الضفة والقطاع وأراضي الـ 48 والشتات، إلى ساحة الاهتمام العربي والإقليمي والدولي، مؤكّدة أن لا أمن ولا استقرار ولا سلام، ما لم يحصل هذا الشعب على حقه المشروع في دولةٍ مستقلة ذات سيادة.

استغلّت "حماس" انفجار المواجهة بين المقدسيين وقوات الاحتلال، علماً أنها كانت خارج الحدث في حي الشيخ جرّاح وباب العامود، لتحقيق أهداف سياسية

حازت القيامة الفلسطينية على تعاطفٍ شعبيٍّ عربي وإسلامي ودولي، تغطية إعلامية واسعة وتظاهرات شعبية كبيرة في معظم الدول، أفسد إسلاميون متحجّرين تظاهرات في أوروبا بهتافاتهم، مثل "خيبر ... خيبر يا يهود جيش محمد سوف يعود"، وبدعواتهم إلى قتل اليهود، قبل أن تنطلق عمليات التوظيف السياسي الرسمي، محلياً وعربياً وإقليمياً ودولياً.
بدأ التوظيف السياسي للقيامة بإطلاق حركة المقاومة الإسلامية (حماس) صواريخ على القدس في العاشر من مايو/ أيار الجاري، تحت شعار "الدفاع عن القدس والأقصى"، شاركت حركة الجهاد الإسلامي في إطلاق الصواريخ، لكن هيمنة "حماس" دفعتها إلى الظل، فانتقل التركيز الإعلامي والسياسي إلى المواجهة العسكرية، وتحوّل اهتمام الإعلام الغربي نحو استهداف "حماس" المدنيين في المدن والبلدات والمستوطنات الإسرائيلية، وأعطى الدول الغربية فرصة للتحرّر من الحرج الأخلاقي الذي وضعها فيه القمع الإسرائيلي الوحشي للمدنيين الفلسطينيين، وتبرير القصف الإسرائيلي على قطاع غزة بـ "حق الدفاع عن النفس". كان وفد من سفراء الاتحاد الأوروبي قد زار حي الشيخ جرّاح، قبل بدء إطلاق صواريخ "حماس" على القدس، للتضامن مع سكانه الفلسطينيين المهدّدين بالطرد من منازلهم.
استغلّت "حماس" انفجار المواجهة بين المقدسيين وقوات الاحتلال، علماً أنها كانت، إلى ذلك الحين، خارج الحدث في حي الشيخ جرّاح وباب العامود، لتحقيق أهداف سياسية خاصة، لخصها معلقون سياسيون بـ "الحصول على الشرعية الشعبية" باعتبارها "المدافع عن القدس"، نزع الشرعية عن رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، محمود عبّاس، تصدّر المشهد عبر استمالة الرأي العام الفلسطيني، الحصول على مقعد ممثل سياسي للشعب الفلسطيني، بتسجيل نقاط على حركة فتح المهيمنة على السلطة الوطنية الفلسطينية.

لم تكن دول ما يسمى "محور المقاومة" بعيدة عن توظيف المواجهة، وتجييرها لصالح تيارها، وقد تجلّى ذلك في وسائل إعلامها وتصريحات مسؤوليها

وجد رئيس الوزراء الإسرائيلي المنتهية ولايته، بنيامين نتنياهو، في دخول "حماس" على خط المواجهة في القدس والأقصى فرصة سانحة لخلط الأوراق، عبر التصعيد ضدها، وإعطاء انطباع عن قدرته في الدفاع عن أمن إسرائيل، وحماية مواطنيها، لإفشال محاولة أحزاب المعارضة، بقيادة رئيس حزب يش عتيد (هناك مستقبل) الوسطي، يائير لبيد، المكلف بتشكيل حكومة جديدة؛ ودفع الموقف نحو انتخاباتٍ برلمانيةٍ خامسة، بحيث يبقى رئيس وزراء لحكومة تصريف أعمالٍ لأشهر إضافية.
لم تكن دول ما يسمى "محور المقاومة" بعيدة عن توظيف المواجهة، وتجييرها لصالح تيارها، وقد تجلى ذلك في تكرار وسائل إعلامها وتصريحات مسؤوليها أن المواجهة الدائرة هي بين "محور المقاومة" والقوات الإسرائيلية، وفي تضخيمها دلالة إطلاق صواريخ من جنوب لبنان وأخرى من الأراضي السورية، هذه الأخيرة سقطت داخل الأراضي السورية، من دون تبنٍ واضح وصريح للعملية، ونقل أخبار المواجهة وما أحدثته صواريخ المقاومة في إسرائيل على الصعيدين الشعبي والرسمي. وقد ارتبط تهليل قائدة "محور المقاومة"، إيران، بإسقاط "السلام الإبراهيمي" وزوال خطر قيام تحالف دفاعي إقليمي تشترك فيه إسرائيل إلى جانب الدول الخليجية المطبعة مع الكيان الصهيوني، وتوظيف التهليل في احتواء التذمر الشعبي من إخفاقاتها في حل قضاياه المعيشية والخدمية، بالتركيز على النصر المؤزّر والعزّة الوطنية.
دول "السلام الإبراهيمي" المطبّعة منها مع الكيان الصهيوني، والتي تنتظر فرصة مناسبة للتطبيع معه، استثمرت المواجهة، ووظفتها في معركتها مع حركة حماس، باعتبارها جزءاً من جماعة الإخوان المسلمين، ولعلاقتها الوثيقة مع إيران، بتركيز إعلامها الرسمي والممول منها على الخسائر الكبيرة، بالأرواح والممتلكات، التي تسببت فيها، وقد تميزت الإمارات في انحيازها الواضح لإسرائيل وانتقادها لحركة حماس وخروج مشايخ إماراتيين، أو موالين للإمارات، على وسائل الإعلام يدافعون عن إسرائيل. وربما جاء ذلك ردّاً على تدمير القيامة الفلسطينية خططها الجيو سياسية، وحلمها بالتحول إلى إسبارطة صغيرة في الإقليم.

دفع رفض نتنياهو وقف إطلاق النار النظام المصري إلى التلويح بتغيير موقفه من حماس، عبر بدء ما وصفها في الصحف الرسمية بحركة المقاومة، ووصف إسرائيل قوة احتلال

ووجد النظام المصري في المواجهة العنيفة والدامية فرصةً لاستعادة مكانة مصر في المعادلة الإقليمية، بعد أن تراجع دوره إثر عقد اتفاقيات دولة الإمارات ومملكة البحرين مع الكيان الصهيوني على تطبيع كامل، فنشط في الوساطة بين إسرائيل وحركة حماس. ودفعه رفض نتنياهو وقف إطلاق النار إلى التلويح بتغيير موقفه من حركة حماس، عبر بدء ما وصفها في الصحف الرسمية بحركة المقاومة، ووصف إسرائيل قوة احتلال، وغضّ النظر عن تأييد مصريين الحركة على وسائل التواصل الاجتماعي؛ وعن دعوات خطباء مساجد داعمة وداعية إلى تأييد الحركة ودعمها، كما فتح معبر رفح للجرحى، وجهّز قافلة من سيارات الإسعاف للمهمة، وتعهد بتقديم 500 مليون دولار لإعادة إعمار غزّة، من أجل تسجيل النجاح للدبلوماسية المصرية، ما يرفع من شأن النظام ويعزّز مكانته الإقليمية والدولية.
ولم تكن تركيا بعيدة عن توظيف المواجهة، حيث نشط إعلامها المسموع والمقروء والمرئي بنقل وقائعها، والتنديد بالعنف الإسرائيلي، قبل أن يطل الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وينعت إسرائيل بأنها دولة إرهابية.
ووظفت الإدارة الأميركية، هي الأخرى، المواجهة الدامية لتحقيق أهداف سياسية خاصة، بدءاً بتبريرها الغارات الإسرائيلية، تحت لافتة "حق الدفاع عن النفس"، واعتبار الرد الإسرائيلي واقعياً وغير مبالغ فيه، وفق تصريح الرئيس الأميركي، جوزيف بايدن الذي أجرى ست مكالمات هاتفية مع نتنياهو، من دون أن يطالبه بوقف إطلاق النار، إلا في الرابعة. وعرقل صدور موقف في مجلس الأمن، كي لا يشكل ضغطاً على نتنياهو، ما شجّع الأخير على إدارة ظهره للوساطات الإقليمية، وهذا كله من أجل منح نتنياهو فرصة تحقيق غرضه، إفشال محاولة خصومه السياسيين تشكيل حكومة جديدة، مقابل سكوته عن محادثات فيينا بشأن العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران. تغيّر الموقف جزئياً، بالحث على وقف التصعيد، بعد تدمير الطائرات الإسرائيلية برجاً في غزة يضم مكاتب لصحف وقنوات تلفزيونية عربية ودولية، وتزايد وتيرة تدمير البيوت وقتل المدنيين وارتفاع أصوات في الداخل الأميركي، ومن الحزب الديمقراطي تحديداً، تدعو إلى لجم إسرائيل، وتبنّي موقف متوازن من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.

ليست المواجهة الشعبية للمستوطنين وقوات الاحتلال في حي الشيخ جرّاح وباب العامود، الأولى، ولن تكون الأخيرة، ما لم ينل الشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة

دول أخرى، عربية وإسلامية، وجدت في الاهتمام الشعبي والتظاهرات المناصرة للفلسطينيين والمقدّسات الإسلامية فرصة لحرف اهتمام مواطنيها عن قضاياهم الداخلية، وتحفظهم ومعارضتهم سياسات أنظمة بلادهم، فدفعتهم نحو مزيد من التظاهر، عبر نقل صور القتلى والدمار في قطاع غزة ومدن الضفة الغربية.
ليست المواجهة الشعبية للمستوطنين وقوات الاحتلال في حي الشيخ جرّاح وباب العامود، وهبة مدن وقرى فلسطين التاريخية والشتات الفلسطيني لمؤازرتها التي تجسّدت بالإضراب العام، الأولى، ولن تكون الأخيرة، ما لم ينل الشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة، خصوصاً وقد تجلّى التغيير في موقف الرأي العام الدولي من إسرائيل وجرائمها الذي عكسته التغطية الإعلامية الواسعة والتظاهرات التضامنية الكبيرة في دول غربية كثيرة، منها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا، تغيّر جعل الحاخام الإسرائيلي، دونيل هارتمان، يكتب في مقالة له "إذ تحوّلت إدانات طريقة تعامل إسرائيل مع الحرب من التركيز على غزّة إلى نقد مبدئي لإسرائيل نفسها قد يمثل نقطة تحوّل أصبحت معها إسرائيل دولة فصل عنصري تقريباً". وقد امتدّ التغيّر إلى الكونغرس الأميركي حيث طرح نوابٌ مشروع قرار للتوقيع يطالب بوقف صفقة أسلحة إلى إسرائيل.
يستدعي الموقف الراهن من القوى السياسية الفلسطينية، من أجل الخروج من عنق الزجاجة، الاعتبار من تجربة التصدّي لصفقة القرن، بموقف موحد وإسقاطها، على الرغم من الضغوط الهائلة على القيادة الفلسطينية لتمريرها، فالوحدة، ولو على برنامج حد أدنى، أنجع من الصراع على سلطةٍ تحت نير الاحتلال.