التطبيع السعودي الإسرائيلي: غموضٌ أبلغ من الكلام

التطبيع السعودي الإسرائيلي: غموضٌ أبلغ من الكلام

04 أكتوبر 2023

نتنياهو يغيّب فلسطين من الخريطة في الأمم المتحدة في نيويورك (22/9/2023/Getty)

+ الخط -

قامت الدنيا، وما لبثت أن قعدت كالمعتاد، عندما أطلق، في مارس/ آذار الماضي، وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، تصريحه عن عدم وجود الفلسطينيين. وقد اختار هذا المهاجر البولندي أن يعرض على منصّة خطابه في باريس خريطة "إسرائيل"، وهي تشمل كل فلسطين والأردن، في ربط بليغ بين الجغرافيا والسياسة والادعاءات التوراتية.

لم تحدُث مثل تلك الجلبة عندما عرض رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، قي أثناء خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، قبل أقلّ من أسبوعين، خريطة "إسرائيل"، وأظهرت كل فلسطين باللون الأزرق أنها "إسرائيل"؛ هكذا كانت في العام 1948، وهكذا هي الآن حسب خريطة نتنياهو التي تشكّل سابقة أخطر بمرّات من خريطة سموتريتش. أولا، لأنها بالذات صفعة على وجه المنظمة الأممية التي منحت "إسرائيل" شهادة مولدها ولا تعترف باحتلالها واستعمارها الاستيطاني في المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1967. وثانيا، لأنه ربطها بما وصفه ميلاد شرق أوسط جديد، لا مكان فيه للفلسطينيين شعبا وحقوقا وطنية. وبطبيعة الحال بلا دولة فلسطينية. وهذه صفعة ثانية على وجه كل المراهنين على مشروع حلّ الدولتين. ... ما الذي دفع نتنياهو ليصل إلى هذا القدر من الإحساس بالقوّة والوقاحة؟

إنه التوقيت، فإذا ما تحقّقت تلك الأنباء عن اتفاق أميركي – سعودي - إسرائيلي للتوقيع على اتفاق للتطبيع بين المملكة ودولة الاحتلال، فسيكون ذلك انعطافا كبيرا وغير مسبوق في تاريخ المنطقة، الأمر الذي منح نتنياهو ذلك الإحساس بالقوة والقرب من الانتصار التاريخي على الفلسطينيين ووضع "إسرائيل" في قلب المنطقة العربية رغما عنهم، وبغض النظر عن موقفهم، فقد حلت بالإقليم متغيّرات متلاحقة، جعلت من مسألة التطبيع السعودي - الإسرائيلي "أقرب من أي وقت مضى"، حسب تعبير ولي العهد السعودي محمد بن سلمان. آخر، وربما أهم، هذه المتغيرات هو المشروع الأميركي الذي تم الإعلان عنه من الهند للممر الهندي - الشرق أوسطي - الأوروبي (IMEC) الذي سيكون فيه لإسرائيل دور محوري. بالنسبة لإدارة بايدن، هذا المشروع هو حاصل الجمع الجيوسياسي والاستراتيجي لعقيدة الرئيس الأسبق، باراك أوباما، والتي سمّيت "المحور الآسيوي" (The Asian Pivot) وبين صفقة القرن التي تبنّاها ونفذها الرئيس السابق دونالد ترامب، فالتطبيع السعودي - الإسرائيلي شأن أميركي في المقام الأول، وتعبير "صفقة" الذي يصفه يكشف عن حجم الاتفاق الذي سيشمل جملة من الترتيبات الاقتصادية والأمنية والعسكرية والتكنولوجية، وسيمتدّ تأثيره ليشمل دولا كثيرة في محاولة صريحة لاحتواء التمدّدين، الصيني والروسي، في الإقليم، وبخاصة بعد عودة العلاقات السعودية الإيرانية، والتقاربين، السعودي الصيني والسعودي الروسي، وقبول الرياض بعقد صفقات لبيع النفط بعملاتٍ غير الدولار.

ويتعلق التوقيت بالذات بتلك المقابلة شديدة الأهمية لمحمد بن سلمان، فقد قطع الأمير الشك باليقين في ما يتعلق بمفاوضات التطبيع، إذ قال إن المفاوضات لم تتوقف، ولكنه حافظ، في الوقت نفسه، على الغموض بشأن حيثياتها، وما يمكن أن تُنتج، وخصوصا الجانب المتعلق بالفلسطينيين في هذه المفاوضات. وقد حافظت الدبلوماسية السعودية على هذا الغموض، وإنْ بدرجة أقل على لسان وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، قبل أيام من مقابلة بن سلمان، والتي قال فيها إن "الرياض لن تطبّع العلاقات مع إسرائيل قبل التوصل إلى اتفاق سلام إسرائيلي فلسطيني". كما أشار الوزير إلى مبادرة السلام العربية للعام 2002، والتي تتيح، حسب قوله، إقامة علاقات مع "إسرائيل، ولكن أولا يجب تحقيق السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين على أساس المعايير الدولية. بمجرّد تحقيق هذا الهدف، يصبح كل شيء ممكنا"، أضاف الوزير.

الورقة الفلسطينية قابلة للمساومة، في تفاوض السعودية مع "إسرائيل" عبر الولايات المتحدة، إذا ما قورنت بما تريد المملكة تحقيقه من صفقة التطبيع

يحافظ بن سلمان على أوراقه قريبا جدا من صدره (مثلما يقولون في لعبة البوكر)، فقد تجنّب تماما ذكر أي توقعات بشأن الشق الفلسطيني من التفاوض، واكتفى بالقول "إنه موضوع خاضع للتفاوض"، وإنه يريد أن تكون "للفلسطينيين حياة أفضل". ويجيد بن سلمان لعبة التفاوض من موقع القوة من خلال الاحتفاظ بالأوراق الحاسمة، والتصرّف كلاعب مستقل ويجيد استخدام إمكانياته، فالورقة الفلسطينية أصبحت بيده، وهذا ما تكشفه خطوة المملكة لتعيين سفير غير مقيم في فلسطين. وهي خطوة يمكن فهمها تعبيرا عن أن ما يمكن أن يتحقّق للفلسطينيين سيبقى في إطار المكتسبات الرمزية. وقبلها تلك الزيارة التي قام بها مسؤولون كبار في السلطة الفلسطينية إلى السعودية، لطرح موقفها من مفاوضات التطبيع مع إسرائيل. ذلك الاجتماع الذي بالكاد رشح منه القليل لوسائل الإعلام، انسجاما مع نهج السعودية المتكتّم. وتدرك الرياض أنها تضع الفلسطينيين أمام خياريْن: إما الثقة بما يمكن أن تحققه السعودية لهم في إطار هذه الصفقة الكبرى، أو يخرجون منها بلا أي "مكسب". ويشير الغموض في تصريحات بن سلمان، بشكل صريح، إلى أن الصفقة لن تتضمن تطبيقا فوريا لمبادرة السلام العربية، أو قبول "إسرائيل" بها باعتبارها سقف المطلب السعودي.

لا يوجد في قاموس المصطلحات السياسية والدبلوماسية أي مضمون محدّد لتعبير "أن تكون للفلسطينيين حياة أفضل"، فهذا قد يعني ببساطة الرجوع إلى عهد خطة جاريد كوشنر حول التسوية الاقتصادية. والقول إن لا تطبيع بدون سلام فلسطيني إسرائيلي قد يعني قبول الفلسطينيين بخطوات توسّع نطاق الصلاحيات المدنية والإدارية للسلطة الفلسطينية، وتقاسم ما تبقى من الضفة الغربية مع "إسرائيل" ومستوطنيها. يدرك بن سلمان جيدا أن لا مصلحة لإدارة بايدن أبدا بممارسة أي ضغط يمكن أن يحمل "إسرائيل" على القبول بإقامة دولة فلسطينية على حدود 1967، فقد فشل في ذلك قبله كل من بيل كلينتون وباراك أوباما. ومن غير المتوقّع أن يأتي أي رئيس للولايات المتحدة يمكنه أن يحاول ليّ ذراع "إسرائيل"؛ إذ تقف دونه غالبية صريحة من أعضاء الكونغرس مدعومين بالنفوذ المفرط لمنظمات اللوبي الإسرائيلي، فكثرٌ هم أمثال وزير الخارجية الأميركي السابق، مايك بومبيو، الذين يبدون رفضا شديدا لمشروع حلّ الدولتين، وهو ما صرّح به، معتبرا أن طرح موضوع الدولة الفلسطينية على طاولة مفاوضات التطبيع السعودي الإسرائيلي سيحول دون الاتفاق. وحسب رأيه، لا يمكن السماح بقيام مثل هذه الدولة التي "ستقودُها سلطةٌ تدعم الإرهاب وتدفع لمواطنيها لقتل الإسرائيليين". ناهيك بأن الحكومة الإسرائيلية الحالية تصبّ كل إمكانياتها للاستمرار، بقوة القانون وبالأمر الواقع، في ضم معظم الضفة الغربية تحت سيادتها. ومن المؤكّد أنها ستتفكّك إذا قبل نتنياهو حتى بتنفيذ ما تُعرف باسم "النبضة الثالثة من إعادة انتشار الجيش الإسرائيلي" في الضفة الغربية حسب اتفاقية أوسلو، وهو أحد مطالب السلطة الفلسطينية التي وضعتها بتصرّف السعوديين. وفي كل الأحوال، حسم نتنياهو أموره منذ زمن برفضه المتكرّر والصريح مشروع حلّ الدولتين.

نجحت الرياض في جعل نتنياهو يعتقد أن صفقة التطبيع وشيكة، ما دفعه إلى تبنّي الخريطة إياها وعرضها

الورقة الفلسطينية قابلة للمساومة، في تفاوض السعودية مع "إسرائيل" عبر الولايات المتحدة، إذا ما قورنت بما تريد المملكة تحقيقه من صفقة التطبيع. والصفقة تعتبر بالنسبة لولي العهد تتويجا لقدرته على تجميع مصادر القوة، وتعتبر إقرارا أميركيا بالأهمية الاستراتيجية للمملكة شريكا قادرا، وله الحق بزيادة نصيبه في صنع القرار الدولي والإقليمي، حيث تستدعي مصالحه، وهو ما جعل إدارة بايدن تتخلّى عن شعاراتها السابقة بشأن التعامل مع بن سلمان، والتوقف عن توجيه النقد إلى سياساته الداخلية ذات الصلة بالقمع السياسي وانتهاك الحرّيات وحقوق الإنسان، فالمشروع الأميركي لربط الهند بأوروبا عبر المنطقة العربية لا يمكن له أن يرى النور بدون السعودية. وقد أظهر بن سلمان استعداده للذهاب بعيدا في تنويع تحالفات المملكة والاستثمار الاستثنائي في اقتصادات دول حليفة لأميركا، مثل الهند، حيث أعلنت المملكة الاتفاق على استثمار مائة مليار دولار في الاقتصاد الهندي على هامش قمّة العشرين أخيرا. وإذا كانت المملكة قد نجحت في تقديم أوراق اعتمادها قوة اقتصادية ودبلوماسية ورمزية، وعزّزت استقرارها الاستراتيجي بعودة علاقاتها مع إيران، فإنها بالنسبة للاستراتيجية الأميركية حليفٌ لا غنى عنه لاحتواء الصين وعزل روسيا.

نجح محمد بن سلمان في إسالة لعاب "إسرائيل" لصفقة تطبيع "ستعيدها إلى مكانها في الشرق الأوسط"، حسب تعبيره، فهي ستمكّن "إسرائيل" من تكريس تحالفاتها الإقليمية والدولية، وستفتح أمامها بوابات كانت موصدة في العالم الإسلامي حيث كلمة السر عند بن سلمان. لكن هل ستقبل تل أبيب أن تتنازل عن استراتيجيتها المدعومة أميركيا بأن تكون القوة الوحيدة ذات التفوّق العسكري التقليدي والنووي في المنطقة مقابل ما سيجلبه التطبيع من منافع هائلة؟ وهل سيستطيع نتنياهو أن يمرّر في حكومته أية تغييرات يمكنها أن تجعل "حياة الفلسطينيين أفضل"؟ وهل ستقبل حكومته وداعموها في واشنطن أن تصبح لدى السعودية اتفاقية دفاعية مع الولايات المتحدة في وجود معارضة قوية في مجلس الشيوخ لها، وفي حين ترفض غالبية الأميركيين ذلك حسب آخر استطلاعات الرأي؟ سننتظر ونرى، فهذه كلها معيقاتٌ جدّيةٌ من شأنها تقويض محاولات التطبيع بين الطرفين. ولكن إلى ذلك الحين، نجحت الرياض في جعل القيادة الفلسطينية تعتقد أنه لن يذهب للتطبيع بدونها، وهو ربما ما دفع الرئيس محمود عبّاس إلى القول في مقدّمة خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل أيام: "واهم من يعتقد بأنه سيكون هناك سلام في المنطقة دون الاعتراف بحقوق الفلسطينيين". ونجحت الرياض في جعل نتنياهو يعتقد أن صفقة التطبيع وشيكة، ما دفعه إلى تبنّي الخريطة إياها وعرضها. والفرق بين عبّاس ونتنياهو، في هذه الحالة، أنه بينما يستند الأخير إلى مصادر قوة "إسرائيل" وعلاقاتها وما تحظى به من دعم من الولايات المتحدة والدور الذي ستلعبه في الاستراتيجية الأميركية، فإن عبّاس يقف وراءه 30 عاما من خيبات "أوسلو" ونهجها، وأكبرها الثقة بما يمكن أن يجلبه نظام عربي للفلسطينيين عبر التطبيع، ولنا في "التطبيعات" السابقة خير دليل، لمن أراد أن يستخلص العبر.

حسين أيوب
حسن أيوب
أكاديمي فلسطيني، أستاذ السياسة الدولية والسياسات المقارنة في جامعة النجاح الوطنية، عمل أستاذا زائرا في جامعة دنفر في الولايات المتحدة.