الانتظار وغياب الفعل أمام آلة الحرب الإسرائيلية

سياسة الانتظار وغياب الفعل أمام آلة الحرب الإسرائيلية

14 فبراير 2024

(محمد عمران)

+ الخط -

الارتباك والتخبط الحالي على الشريط الحدودي المصري مع قطاع غزّة تحسباً للتداعيات المروّعة المحتملة للهجوم الإسرائيلي الوشيك على جنوب غزّة ما هما إلا نتيجة حتمية لتراخٍ مصريٍّ وعربيٍّ امتدّ على مدار شهور منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة. لقد أصبح تطوّر العمليات العسكرية الإسرائيلية في جنوب غزّة أمراً تفرضه المعادلة الصفرية التي تحكم سياسات رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وحكومته في هذا العدوان، والتي تعزّزت مع طول أمد الحرب، وغياب الضغوط المباشرة على إسرائيل التي من شأنها إجبار القادة السياسيين والعسكريين الإسرائيليين على إعادة حساباتهم بخصوص استمرار التوغّل العسكري في القطاع. في هذا السياق، طلب نتنياهو من جيش الاحتلال وضع خطة لإجلاء المدنيين من رفح لتنفيذ هجوم شامل للقضاء على المقاومة، بل وصل الأمر إلى أنه طلب بعض السياسيين الإسرائيليين الدعم من وكالات الأمم المتحدة لتنفيذ هذا الإجلاء القسري. لقد أصبح الاستمرار في العمل العسكري في قطاع غزّة فرصة النجاة لنتنياهو، ومحاولة جذب صفوف تيارات سياسية وشعبية في اسرائيل خلف ما يعد به من نصر وتفكيك شامل للمقاومة الفلسطينية في غزّة. لن تتراجع الحكومة الإسرائيلية عن عملياتها العسكرية سوى ببسط كامل السيطرة على القطاع، وتمهيده لإدارة سياسية جديدة تمكّنها من احتواء أي تهديد محتمل مستقبلي منه، وهو الهدف العريض الذي تتفق معها فيه الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية.

لم يصدر عن الولايات المتحدة، باعتبارها الشريك الأكثر دعماً لإسرائيل منذ بدء عدوانها على غزة، ما يمكن أن يوقف إسرائيل عن هدف تطوير الهجوم العسكري صوب رفح. ولولا الدعم العسكري والسياسي الأميركي لإسرائيل لما كان هذا العدوان ليستمر بهدأ الشكل. كل ما قامت به الإدارة الأميركية في الأيام الأخيرة هو التعبير عن عدم موافقتها على شنّ عمل عسكري لا يأخذ في اعتباره "محنة المدنيين". وقد صرح وزير الخارجية الأميركي بلينكن "أي عملية عسكرية تقوم بها إسرائيل يجب أن تأخذ المدنيين في الاعتبار أولاً وقبل كل شيء". تتبنّى الولايات المتحدة على استحياء تحذيراً غير مباشر لإسرائيل، لما قد ينجم عن هذا الاجتياح من تداعيات إنسانية، وتطالب إسرائيل بوضع خطّة دقيقة قبل الإقدام على اجتياح رفح. وفي الحقيقة، أي مطالب من المجتمع الدولي لإسرائيل بأخذ الاعتبارات الإنسانية في الحسبان خلال عدوانها الجاري، وبعد كل ما ارتكب من فظائع، لا تعدو كونها مطالب عبثية، ما لم يكن هناك تحذير أشمل وأكثر حزما ليس فقط لوقف اجتياح رفح كلياً، ولكن للوقف الفوري والشامل لإطلاق النار، لأن النزيف الإنساني في غزّة مستمرٌّ في جميع الأحوال، حتى وإن تراجع الاحتلال عن تنفيذ هجوم شامل على المناطق المكتظة بالمدنيين جنوب القطاع. لن يوقف هذا النزيف الإنساني أو أي مخطّط للتهجير القسري للنازحين الفلسطينيين سوى بوقف شامل لإطلاق النار يفرضه المجتمع الدولي وتضغط في اتجاهه الدول العربية، وفي مقدمتها مصر، بكل الوسائل الدبلوماسية والاقتصادية والسياسية، وليس فقط بالتصريحات والرغبات.

النظام الإقليمي العربي غير قادر بشكله الحالي على تشكيل قوة ضغط حقيقية

لقد استطاعت حكومة الاحتلال على مدار أربعة أشهر ونصف أن تأخذ زمام المبادرة والفعل في تحديد خطواتها العسكرية في قطاع غزّة، وفرض خطابها ولغتها على الفاعلين الأهم في المجتمع الدولي. لم تكن إسرائيل في موقف رد الفعل والدفاع على المستوى الدولي سوى في مواجهة القضية التي بادرت فيها جنوب أفريقيا ضدها أمام محكمة العدل الدولية بموجب الاتفاقية الدولية لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها. وهي خطوة، رغم أهميتها القانونية والحقوقية على المدى الطويل، لن تُحدث أثراً في الميدان، ما لم تجتمع القوة والضغط مع القانون وقرارات المحاكم. وعلى الرغم من حقيقة الانحياز الحكومي الغربي السافر لخطط إسرائيل وأهدافها المعلنة، لم تقم الدول العربية، وفي مقدمتهم مصر، الأكثر تأثراً بما يجري على طول حدودها، يما ينبغي القيام به منذ اليوم الأول لهذا العدوان، تجنّبا للحظة الدقيقة التي وصلت إليها الأوضاع حالياً في رفح، والخطر الجسيم الذي يهدد حياة أكثر من مليون نازح. لقد أصبحت مصر تحت تأثير الأمر الواقع الذي يوشك الاحتلال أن يفرضه في أي لحظة على مئات آلاف من النازحين الفلسطينيين قرب الحدود المصرية إذا ما بدأ الاجتياح الشامل لجنوب غزّة. ويبدو من المؤشرات الحالية المتمثلة في التصريحات السياسية والإعلامية داخل مصر، وخطوات تعزيز الحشد العسكري المصري على طول الحدود أن تعامل الطرف المصري مع التطوّر المحتمل في رفح سيكون بمثابة رد الفعل على ما تنوي إسرائيل القيام به لتأمين حدودها وأراضيها، والتحسّب لصد موجات المدنيين الفلسطينيين الذين سيضطرون إلى التوجّه إلى الأراضي المصرية فراراً من الجحيم، من دون أخذ زمام المبادرة قبل انتظار وقوع المأساة في رفح، واتخاذ مواقف أكثر صرامةً تجاه إبادة جماعية تجري على حدودها. لقد كشف العدوان على قطاع غزّة حقيقة الخلل والعجز البنيوي المستمر والمتجدّد في النظام الإقليمي العربي، النظام غير القادر بشكله الحالي على تشكيل قوة ضغط حقيقية توظف ما لديها من إمكانات اقتصادية ودبلوماسية وسياسية للتأثير في السياسات الدولية، وتغيير توجّهات القوة الكبرى تجاه قضايا المنطقة العربية.

معتز الفجيري
معتز الفجيري
معتز الفجيري
أكاديمي وحقوقي مصري. أستاذ مساعد ورئيس برنامج حقوق الإنسان في معهد الدوحة للدراسات العليا. عمل سابقاً في العديد من المنظمات غير الحكومية العربية والدولية المعنية بحقوق الإنسان.
معتز الفجيري