الاستبداد والاسترهاب

الاستبداد والاسترهاب

25 مارس 2021
+ الخط -

لا يزال الاستبداد السياسي يُهيمن على شعوبٍ كثيرة، بطريقة أو أخرى، يكون مباشراً أحياناً وغير مباشر أحياناً أخرى، يتغذى من الشعوب نفسها، بل ويزداد عمره بها، فكلما كانت الشعوب تخنع لمستبدّها، كلما كان الاستبداد أكثر قوة وأشد تأثيرا عليها. في المقابل، وعلى الطرف الآخر، وجد شيء آخر يكون مقوماً وسانداً لهذا الاستبداد، وهو "الاسترهاب"، الذي يُستعمل لاقتياد الشعوب والتحكّم فيها، سواء كان هذا الاسترهاب تخويفياً أو حتى حقيقياً، فالتخويفي هو الذي يكون مطلقاً من غير فعل، بل بالإيهام والتوهم، وهذا الفعل أولى خطوات ترسيخ الاستبداد على الشعوب، كما يذهب إلى ذلك عبد الرحمن الكواكبي في كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، فيقول: "الخوف هو السبب المباشر والركيزة التي يعتمدها الاستبداد في أي مجتمع من المجتمعات البشرية التي ترتكس تبعا لذلك في مستنقع التخلف الحضاري والانحطاط". أما "الاسترهاب الحقيقي" فهو لا يختلف كثيرا عن التخويفي، غير أنه مبنيٌّ على الفعل، ولكن هذا الفعل أو العمل التخويفي في أقل درجاته، بمعنى فعل تخويفي رمزي، من شأنه إحداث التخويف، وليس القصد منه الفعل حقيقة، وإن وجد الفعل فإنه لا يكون تاماً وإلا ما كان تخويفياً، ليؤسّس بذلك ثمرة الاستبداد، ويهيئ الشعوب لتقبلها، باعتبار أن انتشار الرعب والخوف بين الشعوب يجعلها أكثرا استسلاما للمستبد، وسيرا في ركب الاستبداد، بل وحتى الدفاع عنه، والأمثلة كثيرة في الواقع المعاش اليوم، فالثورات العربية مرّت ولا تزال تمر بهذه النوعية من الاستبداد، الناجحة منها والفاشلة، أو تلك التي تقاومه كلما دعت الحاجة لذلك.

الاستبداد الممزوج بالقابلية للاسترهاب من الشعب يجعل منها، أي هذه القابلية، قابلية أخرى للاستبداد ومتعايشة معه

ثمة مُقَوِّم آخر للاستبداد وداعم من دعائمه، وهو الجهل، كما يذهب إلى ذلك الكواكبي أيضاً. وعند النظر في هذا الداعم نجده جزءا من "الاسترهاب"، حيث إن الإسترهاب في حقيقته يكون مبنيا على غير علم، ولا حتى وجود فعلي، بل أصل الاسترهاب هو محاولة إيجاد الإرهاب وطلب وقوعه بأسباب مصطنعة حسّية وفكرية، يكون المسترهب جاهلاً بها، وبآليات صنعها وإيجادها، في حين أن المستبد وهو "المُسْتَرهب" يُجيدها ويُتقنها، معتمدا على جهل الغير بها، لتكون أداة له في الاستبداد واقتياد الشعوب، لتكون المحصلة كما يقول الكواكبي: ترك الإرادة للغير، وضياع الحزم، وفساد الرأي. وبالتالي، فإن مقومات نجاح الاستبداد قائمة ومهيأة لتكوين نظام استبدادي في أعلى درجاته، وإن لم يكن موجوداً.

كما أن الاستبداد الممزوج بالقابلية للاسترهاب من الشعب يجعل منها، أي هذه القابلية، قابلية أخرى للاستبداد ومتعايشة معه، معتبراً ذلك أمراً طبيعاً، فيحوّل الميول الطبيعية والفطرية للشعوب في طلب الحرية والرقي إلى طلب التسفّل والاقتياد والأسر، بحيث لو دفعت إلى الرفعة لأبت وتألمت، كما يتألم الأجهر من النور، وإذا ألزمت بالحرية تشقى. عندئذٍ، يصير الاستبداد كالعلق، يطيب له المقام على امتصاص دم الأمة، لا ينفكّ عنها حتى تموت ويموت هو بموتها، كما يقول الكواكبي.

تمازج بين الاستبداد والاسترهاب، بحيث لو أزيلت مسببات الاسترهاب لكان لزاماً أن تقاوم الشعوب الاستبداد، بطريقة أو أخرى

في المقابل، يعتبر نضج الشعوب والتعبير عن هذا النضج المعرفي والفكري يحدّ من الاستبداد، ويفتح آفاقاً لمقوماته، كما يكون له أثر بالغ في عدم تجدّده، إذا كان له سابق وجود في هذه البلاد أو تلك، وهذا أمر واقع، ووجد في البلدان التي قامت فيها الثورات العربية، حيث نرى أن الشعوب انقسمت فيها، في الغالب، إلى قسمين: قسم استدعى المعرفة والحقوق والواجبات على الدولة، وطالب بتفعيلها وإيجادها واقعاً في حياته، معبّراً عن ذلك بنضوجه الفكري والمعرفي، في حين أن القسم الثاني هو الذي استدعى الاستبداد مرة أخرى، وعمل على إعادة وجوده، باعتبار أن تلك الشعوب لا تقتاد إلا استبداداً، وذلك لتغلغل فكر "الاسترهاب" في تفكيرهم، ومن ثم تصرّفاتهم وأفعالهم، وحتى مطالبتهم في حقوقهم، وهذا ما ساعد الثورات المضادّة مرة أخرى على العودة بالشعوب إلى حكم الاستبداد، بطريقة العصا والجزرة، والتي لُبها الاسترهاب التخويفي.

إيجاد الاستبداد وتكريسه على الشعوب والدول كما يدخل فيه الاسترهاب والترهيب والتجهيل والتضليل، يدخل فيه كذلك المُنح والتعالم والفوقية، كلٌّ يستعمل بحسب الحال، غير أن المآل واحد، وهو المحافظة على الاستبداد وحكم المستبد، ولكن ذلك عادة ما يكون في فترة معينة، ما إن تتغير مقدّماتها التي تكون سببا في إيجاد هذه الحالة، إلّا وتتغير نتائجها بمقاومة الاستبداد والاسترهاب.

إذاً هناك تمازج بين الاستبداد والاسترهاب، بحيث لو أزيلت مسبّبات الاسترهاب لكان لزاماً أن تقاوم الشعوب الاستبداد، بطريقة أو أخرى، أو على أقل تقدير لن تقبل به حاكما لها، بل ستقاوم، وتقاوم، إلى أن تُحقق إسقاطه.