الأبارتهايد الإسرائيلي صريحاً من دون تجميل
حاول رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، تبييض تصريحات وزيره إيتمار بن غفير العنصرية الصريحة، التي قال فيها، في مقابلة تلفزيونية، إن حق الحركة لليهود يتقدّم على حقّ غيرهم من الفلسطينيين. وادّعى نتنياهو أن تصريحات شريكه في حكومة التطرّف اليميني كان يُقصد بها أن حق الحياة لليهود يتقدّم على حقّ الحركة للفلسطينيين. ولكن هيهات، فقد سبق السيف العذل، وتصريحات بن غفير الاستفزازية التي فُسّرت كاعتراف رسمي بانتهاج سياسة "أبارتهايد" صريحة من دولة الاحتلال تجاه الفلسطينيين انتشرت في أرجاء العالم انتشار النار في الهشيم، بفضل حركة مقاطعة إسرائيل وفرض العقوبات عليها (BDS) التي وزعت الشريط على كل فروعها وناشطيها ومؤازريها في العالم، ومن باب الأمانة، تجدر الإشارة إلى دور العارضة الأميركية فلسطينية الأصل، بيلا حديد، التي يتابع حسابَها على "إنستغرام" ستون مليون شخص، وقد نشرت تغريدة بن غفير البائسة وعقّبت عليها. رد عليها الوزير العنصري واصفا إياها "كارهة إسرائيل"، فما زاده ذلك إلا إشهارا للفضيحة، واتّخذت معادلة الصراع أبعادا رمزية مكثفة: الجمال في مواجهة القبح، والعدالة في مواجهة الظلم، والاحتلال والأبارتهايد في مواجهة حقوق الإنسان.
لم يكن إقرار الوزير الإسرائيلي بسياسة الفصل والتمييز العنصريين (الأبارتهايد) ليفاجئ أحدا، لا الفلسطينيين الذين يكتوون بنار الممارسات العنصرية يوميا، ولا العرب الذين تتسابق بعض دولهم للتطبيع مع إسرائيل، حتى وهي في أوج عنجهيّتها وتطرّفها العنصري. ولا باقي الدول، وخصوصا الولايات المتحدة وحلفاءها في غرب أوروبا ممن يبدون حساسية مفرطة لأي انتهاكٍ لحقوق الإنسان، ولكنهم لا يفعلون شيئا، ولا يريدون أن يفعلوا شيئا تجاه ما يجري من فلسطين، على الرغم من تراكم الأدلة على بناء (وتكريس) نظام فريد للاحتلال الكولونيالي المقترن ببناء نظام الأبارتهايد. فقد سبقت هذه التصريحات المنفّرة تقارير دورية سنوية وشهيرة أصدرتها منظمات وهيئات حقوق إنسان عالمية ومحلية، ولجان تحقيق دولية، وكلها تؤكّد أن إسرائيل بنت، بشكل منهجي ومخطط ومقصود، نظاما مُمأسسا للفصل العنصري، يقوم على هيمنة مجموعة عرقية على مجموعة عرقية أخرى. أبرز هذه التقارير الذي أصدرته اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لدول غربي آسيا التابعة للأمم المتحدة (إسكوا)، ونُشر في مارس/ آذار 2017، وعلى أثر هذا التقرير اضطرّت الأمينة التنفيذية للمنظمة الدولية، والوزيرة الأردنية السابقة، ريما خلف، للاستقالة بعد الضغط الهائل الذي تعرّضت له من الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، ومن الولايات المتحدة. استقالت خلف، لكنها لم تتراجع عن حرف واحد من التقرير، بل دعت الدول العربية إلى الاستفادة منه في إدانة إسرائيل وعزلها. ومن أشرفا على إعداد التقرير كانا الخبيرين الأميركيين في القانون الدولي، ريتشارد فولك وفيرجينيا تيلي .
في كتاب استقالتها، وجّهت ريما خلف رسالة مؤثرة إلى غوتيريس، ذكّرته فيها بأنه وجّه لها قبل ذلك تعليمات بسحب تقريرين أصدرتهما "إسكوا" بسبب الضغوط التي تعرّض لها، لا بسبب ملاحظات بشأن المضمون، لكن بسبب ضغوط سياسية من "دول مسؤولة عن انتهاكات صارخة لحقوق شعوب المنطقة". ولا تعترض خلف على صلاحياته في سحب التقرير، لكن ضميرها يمنعها من التراجع عمّا ورد فيه، وجدّدت قناعتها الراسخة بالتقرير، وتمسّكها باستنتاجاته بأن إسرائيل أسّست نظام فصل عنصري، أبارتهايد، يهدف إلى تسلّط جماعةٍ عرقيةٍ على أخرى.
النتيجة الحتمية التي لا تقبل الجدال ثبوت ارتكاب إسرائيل جريمتي الفصل العنصري والاضطهاد الدامغتين
بعد تقرير "إسكوا"، توالت التقارير تباعا من منظمات محلية ودولية، تؤكّد كلها بتفاصيل وبينات إضافية أن إسرائيل بنت خلال عقود نظام أبارتهايد يهدف إلى مواصلة هيمنة جماعة عِرقية، هي اليهود الإسرائيليون على الفلسطينيين المجزئين إلى أربع مجموعات سكّانية متباينة الظروف، لتسهيل السيطرة عليهم. فقد أصدرت منظمة بيتسيلم الإسرائيلية تقريرا بهذا الخصوص في يناير/ كانون الثاني 2021، تبعه تقرير "هيومان رايتس ووتش" الذي أضاف جريمة الاضطهاد إلى جريمة الفصل العنصري في مارس/ آذار 2021. ثم تقرير منظمة العفو الدولية (أمنيستي) في فبراير/ شباط 2022، وتقرير مقرّر الأمم المتحدة الخاص لحقوق الإنسان، مايكل لينك، في مارس/ آذار 2022. كما تعزّز هذا الاتجاه بتقريرٍ مشابهٍ أصدره مركز حقوق الإنسان التابع لجامعة هارفارد الأميركية المرموقة في فبراير/ شباط 2022. وتجدُر الإشارة هنا إلى الدور الخاص والمميّز الذي لعبته منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية في الرصد والتوثيق المِهنِيَّيْن لجرائم الفصل العنصري والممارسات المندرجة ضمن تعريفاته، الأمر الذي وفّر مادّة غنية للمنظمات ولجان التحقيق الدولية. وهذا الدور بالذات هو الذي وضع هذه المنظمات في دائرة الاستهداف الإسرائيلية، ما دفع حكومة الاحتلال (حكومة بينت - لبيد بالمناسبة وليست حكومة نتنياهو بن غفير) إلى تصنيف ست منظمات فلسطينية (ثلاث حقوقية وثلاث تعمل في التنمية والمرأة والزراعة) منظمات إرهابية، وحظر عملها وإغلاق مقرّاتها بالشمع الأحمر.
اللافت في هذه التقارير أنها استخدمت أدوات قياس موضوعية ومعيارية في الحكم على الوقائع الكثيرة، والنتيجة الحتمية التي لا تقبل الجدال ثبوت ارتكاب إسرائيل جريمتي الفصل العنصري والاضطهاد الدامغتين، لكن ذلك كله لم يؤثر في مواقف الولايات المتحدة التي تواصل توفير الحماية لإسرائيل في المحافل الدولية، وتمنع اتّخاذ أي قرار في مجلس الأمن ضد سياساتها، بينما تواصل دول الاتحاد الأوروبي التعامل مع إسرائيل بوصفها من الدول الأوْلى بالرعاية، فتعطيها حقوق دول الاتحاد الأوروبي كافة، من دون أن تترتب عليها أي مسؤوليات.
ثمّة بيئة دولية مؤاتية لقبول الرواية الإسرائيلية وتلطيف عيوبها أو غض النظر عن جوهرها الإجرامي
لا يكتفي القانون الدولي بتجريم الفصل العنصري، والنصّ على تجريم الهيئات والمؤسّسات والأشخاص الذين يرتكبونه وفرض عقوبات عليهم، بل تلزم الدول الأعضاء في الاتفاقية باتخاذ التدابير القانونية والإدارية الكافية لمنع هذه الجريمة.
وقد طوّرت إسرائيل، خلال سنوات احتلالها الطويلة، ماكينة إعلامية فعّالة، متخصّصة في مخاطبة الرأي العام الغربي قبل غيره، ووظيفتها الرئيسية تشويه الحقائق التاريخية ومعها الرواية الفلسطينية وتلفيق روايةٍ بديلة، تركّز على الخطر الوجودي الذي يتهدّد إسرائيل، وأن كل هذه السياسات والإجراءات التي تتّخذها هي تدابير مؤقّتة لمحاربة "الإرهاب" وحماية حياة الإسرائيليين، حارفة الأنظار عن أن ما تقوم به ليس مجرّد انتهاكات وتجاوزات للقانون الدولي، بل هي سياسات مُمأسسة ومتكاملة، تهدف إلى إيجاد واقع مديد، يستهدف قمع الفلسطينيين وكبح طموحاتهم الوطنية والسيطرة عليهم في شؤون حياتهم كافة، لتشمل كل جوانب حياتهم واقتصادهم والنظام القانوني الذي يحكُمهم، وتفتيت حقيقة أنهم شعب، وتحويلهم إلى سكّان وجدوا مصادفةً في هذا المكان من العالم.
لا يعود الأمر إلى براعة إسرائيل وماكينتها الإعلامية في ترويج روايتها وطمس رواية الفلسطينيينن، ثمّة بيئة دولية مؤاتية لقبول الرواية الإسرائيلية وتلطيف عيوبها أو غض النظر عن جوهرها الإجرامي، يتعزّز ذلك بشبكات المصالح الأمنية والعسكرية والتجارية التي باتت تربط إسرائيل بمختلف الدول، ومن بينها الأصدقاء التاريخيون للفلسطينيين والعرب، مثل الصين وروسيا والهند وغيرها في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. وفي المقابل، يبدو الصوت الفلسطيني مخنوقا ولا تكاد صرخاته ونداءاته اليومية تُسمع، ليس بسبب نقص الأدلة والبراهين، بل لأن الأداء السياسي للفلسطينيين ومؤسّساتهم السياسية بات يتكيّف مع هذا الواقع الشيطاني، فيميل إلى التعايش معه والاندغام في منظومته من دون الاصطدام به، حتى فصائل المقاومة التي تضعها تضحياتها فوق دوائر التشكيك، باتت تضع بين شروطها للتهدئة بعد كل جولة قتال مطلب زيادة تصاريح العمل للفلسطينيين العاملين في إسرائيل!