حرب غزّة الكاشفة

حرب غزّة الكاشفة

03 فبراير 2024
+ الخط -

لكل حربٍ سماتُها وملامحها، وتأثيراتُها المباشرة والبعيدة المدى، مبرّراتها ومقدّماتها، ثم ما تحفره عميقاً في وعي الأجيال كما فعلت حرب حزيران 1967 في أجيالٍ متلاحقةٍ من العرب، إلى جانب ما في الحروب عبر التاريخ من مشتركات. غالباً تجتمع في الحروب عوامل القوة والعنف والتوحّش مع نتائج تأثيرات ذلك كله على الكيانات والبشر من نشوة الانتصار ومذلّة الهزيمة، آلام ومعاناة وتشريد ودمار ودموع وبطولات وعجز وخذلان. يجتمع ذلك كله الآن في حرب الإبادة المستمرّة على غزّة، معركة طوفان الأقصى، والتي سمتها إسرائيل "السيوف الحديدية" ثم اختارت لها اسمًا توراتيا ينمّ عن التأسيس والإرساء، وهو "سفر التكوين" لإسباغ طابع ديني عليها، مع أن الاسم لم يشقّ طريقه بسلاسة في عالم الإعلام. أما الحرب فهي "ما علمنا وذقنا" في كل المعارك والوقعات التي عرفناها أو قرأنا عنها، ولكنها في غزة تكتسب أبعاداً وطنية وإقليمية وكونية لا سابق لها، فإلى جانب وجهيْها المتلازمين المتكاملين: المأساة والكارثة الإنسانية والعذابات الهائلة من جهة، مع الصمود البطولي للشعب والمقاومة من جهة أخرى، فإنها غدت حرباً كاشفة لكل عيوب النظام الدولي السائد وعوراته ومعاييره المزدوجة، ودور النظام العربي ومؤسّساته، ولطبيعة إسرائيل الدولة والمجتمع، ولدور الأفكار والإيمان بها في المواجهات التي تقع بين أطراف غير متكافئة في قواها المادية، وغير ذلك كثير مما أظهرته أيام الحرب الطويلة، وما سوف يُظهره المستقبل والفحوص المدقّقة لما جرى ولتداعياته البعيدة الأثر.

لعل أبرز ما كشفت الحرب النقاب عنه هو الوجه الحقيقي لإسرائيل، الدولة التي أنشئت وقامت على جرائم الإبادة والتطهير العرقي، وطوال تاريخها استخدمت المجازر والمذابح كأدوات لتنفيذ أهدافها السياسية من تهجير للسكّان الأصليين، وردع للخصوم، وكانت وما زالت تتصرّف وكأنها فوق القانون وخارج نطاق أي مساءلة أو محاسبة من المجتمع الدولي وأدواته القانونية.

أزالت حرب غزّة مساحيق التجميل التي أخفت وجه إسرائيل الحقيقي، حيث نجحت في تضليل أوساط واسعة في الغرب، كما في المحيطين، العربي والإسلامي، وتقديم نفسها دولة ديمقراطية وليبرالية متحرّرة، ومعجزة صناعية وتكنولوجية، ودولة ترغب في التعايش والسلام. مجازر كثيرة اقترفتها إسرائيل كانت بحاجة إلى دراسات وجهود استقصائية واستنطاق من بقوا من الشهود، وكشف بعض الوثائق بعد مرور وقت كافٍ الذي يمتد أحياناً إلى نصف قرن أو أكثر. لكن جرائم اليوم تنفذ على الملأ بالبثّ الحيّ والمباشر، وبالصوت والصورة، وتشهد عليها المنظمّات الأممية بعشرات التقارير الموثقة.

لقد بدا واضحا منذ الأيام الأولى للحرب أن إسرائيل ترتكب عدة أنواع من جرائم الحرب مجتمعة، وهي جريمة الإبادة الجماعية لمجموعة عرقية أو قومية هي الشعب الفلسطيني، وجريمة فرض العقوبات الجماعية بمنع دخول الطعام والماء والدواء والوقود لجميع السكّان من دون تمييز، وجريمة التطهير العرقي والتهجير، ومضت إسرائيل في اقتراف هذه الجرائم من دون أدنى خوف من عقاب أو حساب، وراح مسؤولوها يحرّضون بغرض ارتكاب المزيد، بما في ذلك دعوات إلقاء قنبلة ذرية لحسم الصراع واختصار الزمن، وتهجير الفلسطينيين إلى أي دولة تقبل استيعابهم من كندا إلى الكونغو، وهم الكم البشري الذي تنظر إليه إسرائيل، لا بوصفهم بشرا وشعبا مجاورا ترتبط قيادته معها باتفاقيات سلام، بل كمجموعة من المشكلات الإنسانية والإرهابية والديمغرافية. من الواضح أن هذه النزعة المنفلتة من كل الاعتبارات تراجعت قليلاً بعد قبول محكمة العدل الدولية دعوى جنوب افريقيا، وإخضاع كل ممارسات إسرائيل للمساءلة والفحص، لكن لغة "الحلّ النهائي" المستوحاة من أدبيات النازية ما زالت حاضرة بقوة في الخطاب الإسرائيلي الرسمي والأهلي.

لم تقتصر آثار حرب غزّة الدولية على كشف طبيعة النظام الدولي السائد، بل جاوزت ذلك لتطاول السياسات الوطنية واصطفافات القوى في كل دولة

أظهرت الحرب، كما لم تفعل قضية عالمية أخرى، مدى إجحاف النظام الدولي وظلمه، وازدواجية المعايير التي يستخدمها سادة هذا النظام، في تطبيق القوانين الدولية، التي يجري تكييفها ومواءمتها بحسب جنسية الجاني والضحية ولونهما وهويتهما العرقية والدينية، وليس أدلّ على ذلك من مواقف الإدارة الأميركية التي ما زالت تتصرّف بوصفها رئيسة هذا النظام الدولي وشرطي العالم. والمفارقة أنها ما زالت تعتبر نفسها الراعي الحصري لمسيرة "السلام" و"التسوية" بين الفلسطينيين وإسرائيل، فهذه الإدارة ترى ما تريد وتغضّ النظر عما لا يروقها ولا ينسجم مع مواقفها، تتلقّف الحجج والأعذار الإسرائيلية من دون الحد الأدنى من عمليات التحقق والتدقيق. ينفطر قلب الرئيس الأميركي، كما قال، لدى سماعه أنباء مقتل اسير يحمل الجنسية الإسرائيلية، وهو في الواقع جندي في الجيش الإسرائيلي، ويشكّك في أعداد الضحايا الفلسطينيين، ويصم أذنيه عن الإحصائيات المفزعة لوكالات الأمم المتحدة جميعها التي تؤكّد مقتل ما معدّله مائة طفل فلسطيني في اليوم، قياسا بطفل أوكراني واحد خلال الحرب الدائرة منذ عامين. أما الناطق باسم الخارجية الأميركية، مايك ماثيو، والذي تدّعي أجهزة إدارته معرفتها بحركة الطائر والفراشة على سطح الكوكب، فقد بدا كشخص مغفل أمام هجوم الصحفيين، وهو يدّعي عدم معرفته بنسف الجامعات والمستشفيات والمساجد والكنائس والبيوت والمنازل والمقابر والطرقات وكل معالم الحياة في قطاع غزة.

لم تقتصر آثار حرب غزّة الدولية على كشف طبيعة النظام الدولي السائد، بل جاوزت ذلك لتطاول السياسات الوطنية واصطفافات القوى في كل دولة، فها هي تؤثر على الانتخابات الأميركية وفرص إعادة انتخاب الرئيس جو بايدن، وها هم المحتجّون يلاحقون الرئيس ووزير خارجيته بلينكين وباقي فريق الإدارة أينما ذهبوا ويقاطعون خطاباتهم مطالبين بوقف إطلاق النار. وها هي مظاهراتٌ عارمة بمئات الألوف تجوب معظم المدن والعواصم الغربية، وتتسبّب بازمات حكومية في بعض البلدان مثل بريطانيا، وباتت غزّة موضوعا رئيسيا على أجندة الأحزاب والقوى الاجتماعية الأوروبية والغربية عموما.

القوة الشعبية البسيطة الإمكانات المسلحة بإيمانها بقضيتها وبحقوقها، وبإرادتها في الحياة والحرية، يمكنها الصمود ومواجهة القوة الغاشمة

ومن الأمور الصارخة التي كشفتها حرب غزة، مدى تهافت النظام الرسمي العربي وهشاشته، وعجزه عن التأثير في معادلة الحرب إلى درجة العجز عن إدخال المساعدات الإنسانية والإغاثية التي تكدست في مدينتي العريش ورفح المصرية من دون أن يتمكن أحد من إدخالها إلا وفق الاشتراطات التعجيزية الإسرائيلية. عبّر النظام الرسمي العربي عن هذه الحالة بتأخير عقد القمة العربية الاسلامية المشتركة 35 يوما عن تاريخ بدء الحرب، ثم عبر تباطؤ الأداء العربي وانقسامه واكتفائه بالبيانات والمناشدة من دون أن يفكر أدنى تفكير في مجرد التلويح باستخدام الإمكانات العربية الهائلة، البشرية والاقتصادية والدبلوماسية للضغط على إسرائيل. حال الشارع العربي لم تكن في حال أفضل من الموقف الرسمي مع استثناءات قليلة، وهو أمرٌ يمكن ان يُعزى إلى سيطرة منظومات القمع أولا، وإلى ضعف الأحزاب والقوى الاجتماعية التي يمكن أن تستوعب المشاعر الشعبية المتأجّجة وتحوّلها إلى فعل سياسي ضاغط يلزم الحكومات، ويدفعها إلى الخروج من دائرة المراقبة والفرجة.

ينطبق كل ما سبق وبشكل أكثر فداحة وأسى على الموقف الرسمي الفلسطيني الذي تمثله قيادة السلطة الوطنية ومنظمة التحرير، وهي ما زالت تنظر إلى حركة حماس منافساً لدوداً لها وليس شريكاً وطنيا. اتسم الموقف الرسمي الفلسطيني بطابع انتظاري، وكأن ثَمّة من ينتظر إذنا بعودة السلطة لتسلم مهمّاتها في غزّة، وصدرت رسائل وبيانات ومواقف هي أقرب إلى التضامن الذي يبديه الأخ البعيد والصديق منها لمن يتحمل مسؤوليات سياسية وقانونية وأخلاقية تجاه شعبه الذي يُذبح ويباد، والأنكى صدور عدة تصريحات بائسة يعتبر بعضها أن الأمر مشكلة بين "حماس" وإسرائيل، ويلوم آخرون "حماس" ويدعون إلى محاسبتها، ووصل الأمر بأحدهم إلى درجة وصف الحركة بأنها "إرهابية" في ظل استهدافها الدموي من إسرائيل. المفارقة أن كل هذه المواقف الهزيلة لم تشفع للسلطة في إرضاء الأميركي والإسرائيلي ولا في تحسين صورتها، بل ظلت محل اتهام من الأميركيين بأنها فاسدة، وبحاجة إلى إصلاحات جوهرية، كما أنها مهما فعلت ليست مقبولة من الإسرائيليين الذين يرفضون اي صيغةٍ مهما كانت لإعادة توحيد الفلسطينيين ضمن أداة سياسية أو كيان.

أظهرت الحرب، كما لم تفعل قضية عالمية أخرى، مدى إجحاف النظام الدولي وظلمه، وازدواجية المعايير التي يستخدمها سادة هذا النظام

كشفت هذه الحرب مدى زيف المؤسّسات الإعلامية الكبرى، ومخالفاتها الفظّة المبادئ المهنية التي تقوم عليها الصحافة، فهي تبنّت الروايات الإسرائيلية الملفقة بشأن "الفظائع" التي ارتكبتها المقاومة يوم 7 أكتوبر، وردّدتها وبنت عليها روايتها وتغطيتها من دون الحد الأدنى من وسائل التحقق والتوثيق، لا بل ظلّت مصرّة على تجاهل الوقائع المادية والاعترافات والشهادات الإسرائيلية التي توالت عن مسؤولية الجيش الإسرائيلي في قتل العدد الأكبر من "المدنيين" الإسرائيليين، إما بسبب الفوضى وانهيار المنظومة الأمنية، أو بسبب تطبيق بروتوكول هانيبعل الذي يقضي بقتل الأسرى، ومن يأسرهم للحيلولة دون استخدامهم ورقة مساومة. لقد ثبت أن وسائل الإعلام الغربية الكبرى تتبع مصالح مالكيها ومراكز القرار في الغرب، فتنشر ما ينسجم ومصالحها وتهمل ما يتعارض معها، ويعود الفضل إلى انتشار "صحافة المواطن" وتقنيات الاتصال الحديثة في نقل الحقائق الدامغة عن معاناة الفلسطينيين والجرائم الإسرائيلية.

من أهم ما تجلى في هذه الحرب، الأكثر قسوة في العصور الحديثة، إعادة التأكيد على معادلات الصراع بين قوى غير متكافئة في إمكاناتها العسكرية والمادّية، فهذه الحرب هي بين دولة تملك واحداً من أقوى جيوش العالم، ومدعومة بكل شيء من أكبر وأقوى قوة عالمية، وشعب محاصر ومخنوق ومحروم من أبسط مقوّمات الحياة الإنسانية. لكن القوة العسكرية الهائلة ليست وحدها في الميدان، وثمة دائماً حدود لقدرتها على حسم المعارك، بينما القوة الشعبية البسيطة الإمكانات المسلحة بإيمانها بقضيتها وبحقوقها، وبإرادتها في الحياة والحرية، يمكنها الصمود ومواجهة القوة الغاشمة، وتستطيع ابتداع أدوات بسيطة ومؤثرة مما يشبه العدم، وها هي تصمُد في الميدان أكثر مما صمدت جيوشٌ جرّارة ودول، وتدخل إسرائيل في متاهات الأسئلة الصعبة عن معاني الانتصار وفرص البقاء والاستمرار.