اعتدال الميزان في النظر إلى الثورات العربية

اعتدال الميزان في النظر إلى الثورات العربية

19 يناير 2024
+ الخط -

وصلت إليّ جملة من الاتصالات تعليقا على مقالي السابق في "العربي الجديد": "الثورات: قائمة؛ كامنة؛ فاعلة" (5/1/2023)، يصفني بعضها بالمثالية في التقييم، ولم تكتف أخرى باتهامي بعدم الواقعية والإغراق في بحر من الخيال، بل ذهبت إلى أبعد بالقول إنه تغريرٌ بالشعوب، وهو ما قد يدفعهم إلى ما لا تُحمد عقباه، فيزداد الأمر سوءاً ويزيد الطين بلّة، وهناك من طفق يناقش تفاصيل كلمات العنوان؛ فوصف الثورات العربية بأنها ليست بالثورات كما يعرّفها المختصون أو مراكز الفكر والبحث، كما أن نماذج الثورات التي يُقاس عليها في خبرات التاريخ لم تنطبق على تلك الثورات التي قامت وذاعت في الأقطار والدول العربية .. دولة بعد دولة، ثم بات هؤلاء يثيرون تساؤلاتٍ مطالبين بالشواهد التي ترتبط بهذه الأوصاف قائمة، كامنة، فاعلة، وأن ما كتبته ليست عليه دلائل وليس له من توثيق. ومن قولهم في هذا السياق إن المؤشّرات على أن الثورات قائمة موجودة أمر لا أساس له؛ كيف يمكن القول بذلك وقد صارت في طيّ النسيان والاختفاء، وهي فعلٌ انقضى أمره، ومضى أثره، وهذا لا يُقبل، ووصفٌ جانَبه الصواب.

ويزيد بعض هؤلاء إن وصف الكمون ذاته يستحقّ التحذير منه، والتأكيد على خطورة آثاره وسوء مآلاته، ويذكّرون بقول العلماء عن وصف الثورات بـ"الفتنة" المأمور باتقائها وتجنّبها وعدم المساهمة فيها، ويشوّهون التبشير بالثورات، خصوصا في ظل ما يعتقدونه من مخاطر كثيرة أعقبتها، وكثير من النتائج والمتحصلات التي أنتجتها، ويؤكّدون أن استئناف الثورات سيكون محفوفا بالمخاطر ومحصلا لمزيد من الخسائر، كما أنهم ينتقدون وصفها بالفاعلة، ويؤكّدون أن الثورات أبعد الأوصاف أن تكون، وأقلها مصداقية وموثوقية، أين الفاعلية التي ترتبط بها، أو ترتكن إليها كمؤشّرات دالّة على ذلك، أم أنه أمر يقع في ذهن الكاتب من باب الأماني والرغبات وكل تلك التحفّظات. وكنت قد شرعت في أن أواصل الكتابة عن مستقبل الثورات واعتبار النظر في تواصلها مؤشّرا إلى كونها منعطفاً تاريخياً. ومن هنا، وجب عليّ، ضمن الإثبات والتوثيق للحالة الثورية التي امتدّت، أن أتوقف عند تلك المقولات المناقضة لتصوّرات طُرحت في المقال السابق، وأباشر محاولة التفكيك للشروحات التي قُدّمت في تلك المدافعة.

يأتي وصف حدث ما بأنه منعطف تاريخي في إطار عملية منهجية منضبطة بينها سابقا، إلا أن أهم ما يجب أن تتضمّنه مراعاة أن يكون لهذا الحدث المعتبر تأثيرٌ مستقبليٌ مستمرٌّ، ومن هنا يأتي حدث الثورات العربية الذي مر عليه عقد، ولا يزال حيا ومؤثّرا ولم يستطيع لا مؤيدوه ولا معارضوه مغادرته أو تجاهل تأثيره، ولا يبدو أنه سيخبو قريبا، بل سيظل مؤثرا وممتدا إلى أن تحقق هذه الثورات أهدافها وتحصل الشعوب على حقوقها وحينها ستكتمل أسطورته باعتباره منعطفا تاريخيا راسخا ومقيما في وجدان العالم. وفي هذا الإطار، لا يسعنا إلا أن نفكّك بعض المقولات التي تتردّد حول الثورات، ومنها أن هذه الثورات انتهت بلا رجعة، ومن يقول بذلك قد لا يكون معادياً للثورات، ولكنه يحاول أن يرى ذلك من منظور الواقع الراهن الذي استطاع فيه الاستبداد أن يحافظ على مكانته ويحمي أتباعه ويشيد أسوار حمايته وجسورها على حساب الثورة والتغيير، إلا أن هناك من يرى أن الثورات فشلت وانتهت، كتقييمٍ للحدث تاريخيّا، ويختلف هذا عن صاحب القول الأول إنه كاره للثورة يقف في صفّ المعادين لها، ويحاول أن يشوّه صورتها ويؤسّس لتصوّرات معادية لها حاضراً ومستقبلاً، ومثل هذا القول لا نحكم على حجمه، ولكننا نؤمن بضعف تأثيره وزوال حجته عندما تحقق الثورات أهدافها ويحدث التغيير المأمول.

تتمثل جاذبية الفعل الثوري في أنها تقدم وصفة جديدة للواقع غير القائمة والمستهلكة

إلا أن هناك من يتهم الثورات بأنها المسؤولة عن الوضع الحالي الذي تعيشه الدول العربية، وهذه فِرية لا نستطيع تجاهلها أو التغافل عنها، وخصوصا أن القاصي والداني يجب أن يعلما أن هذه الأوضاع، سواء في السابق أو في الوضع الراهن، السبب الرئيس فيها والمسؤول الأول عنها هو الاستبداد المقيم، وأن ثورات التغيير بعيدةٌ كل البعد عن مثل هذه التصوّرات الموهومة أو المتوهمة، بل يدعم هذا القول مقولة أخرى تستبعد أن تتمكّن الثورات مرّة أخرى في العالم العربي وأن الأوضاع التي عاشتها البلاد العربية خلال الثورات لن تعود، وهو زعم لا يقف على أرض صلبة أيضاً، وخصوصا أن الثورات تركت أثراً في كل هذه الشعوب، وما زالت أشواق التغيير موجودة، تحلم بالتغيير ولا تصدّق مزاعم الفشل أو الانتهاء أو الاتهام أو التجاهل والإحباط، بل يؤكد ذلك أن النظم المستبدّة نفسها ما زالت مسكونة بهاجس تكرار الثورات، ومن ثم لديها خطاب وسياسات وإجراءات لمنع تكرارها، وتتشدّد جدّا وتتصلب في قبول أي إجراء قد تكون فيه لمحة من الفعل الثوري، مثل مظاهرة محدودة العدد، أو إعلان عن احتجاج أو اعتراض، حتى ولو كانت القضية تمسّ الأمة، مثل القضية الفلسطينية.

قد نستطيع القول إن هذا الخطاب بمفرداته المختلفة يصدُر عن جهة واحدة، ولكننا نستطيع أن نؤكّد أن هناك جهة واحدة مستفيدة منه، وهي حلف المضادّين للثورة، فعندما قامت الثورة اعتبر المستبدّون أن هذه هي معركتهم الأخيرة، وأن حماية استبدادهم والحفاظ عليه هو معركة وجود، ومن ثم كان عملهم وسعيهم وحلفهم، بمستوياته الثلاثة، الداخلي والإقليمي والدولي، كان مناط تركيزه ضرورة القضاء على هذه الثورات قضاءً مبرما، وأكّدوا أن عداءهم مع التغيير ذاته، وأن هدفهم المركزي يجب أن يكون منع تكراره، مع أن التغيير سنّة الحياة، ولن تستطيع جهة أو فئة أو تيار أو دولة أو حتى حضارة الوقوف أمام التغيير حينما يحين وقته، ومع ذلك، اتخذوا هذه المواقف وتآمروا والتفّوا حول الثورات، واستطاعوا أن يغيّروا المشهد من مشهد ثوري تغييري إلى مشهد انقلابي مفعم بالحروب الأهلية.

معركة الاستبداد هي معركة وجود، لأنه يعي جيداً خطورة حدوث أي شرخ في جداره أو منظومته

من جانب آخر، تأتي أهمية الثورات في أنها طرحت سؤال التغيير، وأفشلت الفكرة التي يقتات منها وعليها الاستبداد، وهي استمرارية الوضع الراهن، والهجوم على كل من يتحدّث عن التغيير بغضّ النظر عن الضرورة التي تستدعي ذلك، أو المآل الممكن الوصول إليه، فقد أكّدت الثورات أن استمرارية الوضع ليست نشاطا أو فعلا، وأن الثورة هي التي تقدّم أطروحة للتغيير. ومن هنا، تتمثل جاذبية الفعل الثوري في أنها تقدم وصفة جديدة للواقع غير القائمة والمستهلكة، ولذلك، تحتاج لخطاب رشيق يستطيع أن يفكّك مقولات الاستبداد، ويرشد اتجاهات الخطاب، ويبني للمستقبل، ويؤكد على حقيقة أن الشعوب لا تموت، من يموت هو المستبدّ، رغم شِركه البين، فهو يرى نفسه القائد الخالد، كما أن تفكيره في التوريث ليس إلا لاستمرار الخلود لاسمه واسم عائلته. ولذلك معركة الاستبداد كما سبق القول هي معركة وجود، لأنه يعي جيداً خطورة حدوث أي شرخ في جداره أو منظومته، ولذا يعي جيدا خطورة التغيير والثورة، وما يمكن أن يترتّب على ذلك من مخاطر.

لا يزال باب الثورات والتغيير مشرعا وهو إيمان راسخ لدينا انطلاقا من فهمنا السنن الإلهية، لأن التغيير سنة، بعكس الثبات الذي يتعارض مع السنن الماضية، وهذا الفهم السنني للثورات والقوانين المتعلقة بالظاهرة الثورية، هو الذي يحدّد مستقبلها الحقيقي، ويعتدل به الميزان في النظر إلى الثورات ومستقبلها.

ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".