استثمار الصمود والارتقاء بفرصة الردع

19 يوليو 2014

صواريخ المقاومة تخترق القبة الحديدية (16 يوليو/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

تلقت تل أبيب من الكونجرس الأميركي مساعدة بقيمة 351 مليون دولار، لدعم تجهيزات القبة الحديدية التي تعترض الصواريخ، وذلك في غمرة نفقات وخسائر لحقت بالجانب الإسرائيلي المعتدي، تقدر بمئات ملايين الدولارات، خلال الأيام العشرة الأولى للحملة العسكرية العدوانية التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة.

والواضح أن الولايات المتحدة تشكل جبهة إمداد وتغذية لهذه الحملة، وتشمل الدعم السياسي والدبلوماسي والمالي، علاوة على التنسيق وتبادل الخبرات الموصول بين البنتاجون ووزارة الحرب (الدفاع) الصهيونية. إنها حرب تخلو من عنصر التكافؤ بين طرفيها، ومع ذلك، يتوفر الجانب الفلسطيني على إرادة سياسية، تجعله يرفض مبادرة لم يكن طرفاً فيها لوقف إطلاق النار، فيما يقيل بنيامين نتنياهو نائب وزير دفاعه، لأن الأخير وصف حملته بالفاشلة.

نعم، هي الإرادة السياسية، أو إرادة الصراع وإدارته. فيما يفتقد الجانب الفلسطيني أي مصدر للدعم والإسناد. ويخوض الحرب من موقعٍ يتعرض فيه للحصار. فيما يركّز العدو على استهداف المدن والأحياء والتجمعات السكنية، بما يجعل الخسائر في الأرواح مهولاً. ناهيك عن الإصابات البشرية، وهدم مئات البيوت والأضرار الفادحة في البنية التحتية. كان الظن أن زمن حروب كهذه مضى وانقضى، وأن تجنيب المدنيين ويلات الصراعات الحربية ركن ركين في القانون الدولي. وأن التشديد على محاربة الإرهاب الذي تأخذ به غالبية دول العالم يعني، في المقام الأول، حماية المدنيين، أو أقلّه النأي عن استهدافهم.

لكن تل أبيب التي تضع نفسها خارج النواميس الدولية وفوقها تخوض حروباً هي، بالدرجة الأولى، ضد المدنيين، وذلك يتفق مع مرتكزها العقائدي القائم على أن صراعها هو مع شعب آخر، لا مع جيش أو جماعات مسلحة. وأن سلب أرض هذا الشعب "يحتّم" تغييب هذا الشعب، بمختلف الوسائل والأساليب "الناجعة". كان شارون الذي سبق له أن شن على غزة عدة حروب قد أفتى بعد بدء موجة مكافحة الإرهاب (عقب تفجير البرجين في نيويورك 2001) بأن هذه المكافحة قد تتسبب، ولا بد أن تتسبب، بإيذاء المدنيين. فيما يفيد واقع الحال، وواقع الأداء العسكري الإسرائيلي، أن الاستهداف المنهجي للمدنيين لا بد أن يلحق الأذى بمسلحين.

على هذا النهج، سارت القيادة الروسية في حربها على الشيشان، إذ كان يجب إيقاع أكبر الخسائر في صفوف المدنيين، عبر سياسة الأرض المحروقة، من أجل كسر شوكة المسلحين، وحرمانهم من الحاضنة البشرية. وهو نهج سار عليه الحكم في دمشق في قمعه الانتفاضة، إذ تم، ويتم، تشديد النكير على المدنيين، حتى يقرَّ في وعي المنتفضين أنه لن يكون هناك وجود مادي لشعب يحتضنهم. وبالطبع، ينبغي التنويه بممارسات سوداء، لمنظمات متطرفة، مثل "داعش" وسواها من ميليشيات طائفية في استهدافها الوحشي للمدنيين، والخلط الأعمى بين ما هو مدني وعسكري.

المجتمع الدولي بدأ يُظهر، أكثر فأكثر، لامبالاة متزايدة تجاه محنة المدنيين. ويتصرف باعتبار أن ذلك شر لا بد منه، وتضحية لا بد أن يتحملها الضحايا وذووهم، ولولا تقارير للأمم المتحدة ومنظمتي أمنستي وهيومن رايتس ووتش وما تيسّر من تقارير إعلامية على درجة من النزاهة، لانتفى الاهتمام السياسي بالضحايا المدنيين، وبتقهقر الخدمات الطبية، فيما يتم التركيز على المعدات القتالية والأداء العسكري، وعلى تعارض المواقف السياسية، وكأن الحرب على غزة حرب كلاسيكية بين جيوش ودول.

لم تعد الحروب، في هذا الضوء، تختلف عن ممارسات الحروب الأهلية التي تتخذ من المدنيين وقوداً لها، أو عن المأثورات الفاجعة للحرب الكونية الثانية التي أودت بملايين البشر من المدنيين. وأخلاقيات الحروب التي تبلورت، رداً على تلك الكوارث، باتت، كما هو بادٍ، جزءاً من الماضي. فالحرب على الإرهاب ألغت قواعد عديدة للحروب ومعاييرها، كالتعامل مع الأسرى واحترام الهيئات الطبية والمرافق المدنية ودور العبادة، وهذا الإلغاء هو، ويا للمفارقة، ديدن الإرهاب نفسه. خطيئته وعلّته الكبرى.

وفيما تتسلح حركة حماس، وتشاطرها في ذلك فصائل أخرى، بإرادة سياسية صلبة، إلا أن ذلك على أهميته غير كاف، فالمقاومة هي مجتمع نخبة وأداء نخبة سياسية وعسكرية، من دون اتصال وثيق مع المجتمع الذي يتحمل أكبر الأعباء. وسلسلة الحروب التي شنها المحتل على القطاع يفترض أن تُراكم خبرةً تتصدّى للإجابة على سؤال مثل: إذا كانت حياة أبناء القطاع شديدة الصعوبة والضنك تحت الحصار، بغير حروب يشنها الإسرائيليون، فكيف سيكون الحال مع شن هذه الحروب، وهل يتمتع القطاع ببنى تحتية، تحمي المدنيين في الحدود الدنيا؟ ويتفرع عن السؤال سؤال آخر، لعله لا يقل أهمية، فكيف يدار الصراع الناجع بغير العمل على إرساء بيئة سياسية مواتية، تمُكّن من مواجهة التحدي، أو تبعد شبح الحروب الدورية؟

دعونا نلاحظ كيف أن حزب الله (أين يؤدي جهاده المقدس الآن؟) قد اعتمد سياسة تجنّب فيها الاحتكاك مع العدو، منذ حرب يوليو/تموز 2006، وإلى درجة يكاد فيها لسان الحال ينطق أن تلك الحرب آخر الحروب! في واقع الحال، أنه تم تعزيز الوظيفة المعنوية للسلاح، وهي بكلمة: وظيفة الردع، مع تقليل فرص الاستخدام الفعلي للسلاح، كلما أمكن ذلك. وقد خطت المقاومة خطوات نوعية على طريق الردع، في هذه الحرب، ومن الأهمية بمكان استثمارها لاحقاً.

ليست هذه، بطبيعة الحال، دعوة إلى أن تنكفئ فصائل المقاومة، وتضع خيار المقاومة جانبا. بل هي على عكس ذلك، دعوة لتثمير الصمود وتعزيزه، ببناء واقعٍ سياسي، واجتماعي ودفاعي متين، منفتح على العالم، ومتصل بالشطر الآخر من الوطن، لا يتيح للعدو شن الحروب ساعةَ يشاء، ولا يتعرض المدنيون لويلات الوحشية الإسرائيلية، ساعة يقرر ذلك سادة الحرب في تل أبيب، ولا تكون فيها المقاومة شبه عزلاء سياسياً في محيطها، وعلى امتداد العالم. وبحيث تمتلك حماس وبقية الفصائل الخبرة للتعبير عن موقف مثل الموقف من مبادرة وقف إطلاق النار، بإعلان قبولها بشروط، وليس رفضها بشروط، فالرفض لا يحتاج إلى شروط.

وإذا كان الاحتلال يبذل كل ما تملك يمينه، لعزل القطاع وأهله، فمن الواجب عدم الركون إلى عزلة "ذهبية"، أو استمرائها، بداعي أن أحداً لا يعتنق خيار المقاومة في المحيط، فإلى جانب هذا الخيار، هناك جملة المصالح والوشائج المتبادلة التي لا بد من وضعها في الاعتبار، والبناء عليها، في التعامل مع الآخرين.