إشاعات غير شرعية

24 نوفمبر 2023
+ الخط -

قد تبدأ الحروب بإشاعة، وقد تنتهي بأخرى، أحياناً، فالحروب لا تقوم على مخزون الأسلحة وموازين القوى الإقليمية فقط، بل تحتاج أيضا إلى الإشاعات لتضرب في الأرض معبّدة الطريق للجيش، ولتُمدّ الحرب بـ"الشّرعية" إن نجحت في مهامّها، فيلتفّ الناس حولها وحول أسباب الاشتعال. وإذا لم تُحسن الأطراف استعمال الإشاعة، كما تُحسن استعمال باقي الأسلحة، سترتدّ عليها. كما حدث مع الإشاعة التي تُلخّص في جملة، حرب إسرائيل على غزّة، وهي "حزّ حماس أعناق أطفال إسرائيليين"، التي ردّدها نتنياهو، وأعاد ترويجها بايدن، لترتدّ عليهما، مثلَ رصاصات بندقيةٍ لم يُفتح صمّام الأمان فيها، فتطلّب إنكارها جهداً، لم ينجح في تغطية زيف رواية الدولة التي ليست سوى شوكة في خصر الإنسانية.

من جهة أخرى، وفي مثال للإشاعة الناجحة في مهامّها "الشّرعية"، مرّرت جهاتٌ رسمية إشاعة تقول إن المغرب طرد رئيس مكتب الاتصال الإسرائيلي، فانتشر الخبر بقوّة، ثم نسي الناس الأمر، بمن صدّق الإشاعة منهم، ومن لم يصدّقها. لقد أدّت دورها، وهو امتصاص الغضب الشّعبي تجاه التّطبيع. بعدها، نسي الناس مطالبات طرد السّفير، وانشغلوا بما لن يُغيّره فعلٌ كهذا، رغم رمزيّته، فهو بلا وزن، مقابل ما يحدُث على الأرض، وما يحتاجه الضّحايا مما يتجاوز أثر طرد السّفراء. كما أن سحب إسرائيل موظفيها لأسباب أمنية، وفر على الدولة، في نظرها، قرار طرد غوفرين، وسهّل مأمورية الإشاعة.

بالإشاعة، يمكن تحويل الضّباع إلى سباع، والجبناء إلى شجعان. وهذا ما تحاول فعله إسرائيل، القائمة أصلاً على إشاعات وأكاذيب تم ليّ أعناقها، لتصبح حقيقة تُردّدها الجهات ذات المصلحة، وخلفها القنوات الكبرى. في محاولة لإبعاد النّظر عن مجازرها المبنيّة على الادّعاءات، لا على الحقائق.

أذكر قصّة قرأتُها في صغري، للذاعتها وبلاغتها في إثبات قوّة الإشاعة. عن رجلٍ جبان صار بطلاً بفضل الإشاعة، بعدما تخلّف عن الحرب، لجُبنه. ففي ليلةٍ، والجندُ غائبون، وجد نفسه في مكان مظلم، والسّماء تمطر. وشرع يشكو من لؤم قطرات المطر، لتصل الشّكوى إلى الجانب الآخر من الجدار، حيث يلجأ من المطر حيوان متوحّش أفزع القرية، فظنّ أن قطرات المطر وحشٌ أشدّ منه، فخاف، وأحنى رأسه. لمحهُ البطل الهمام، وهو مطأطئ الرأس، فظنّه، في العتمة، حمارَه الضّائع، وأمسك به مقرّعاً إياه، وقاده إلى الإسطبل.

حلّ الصباح، ليجد أهل القرية الوحش مقيّداً في حظيرة الجبان، فمجّدوا بطولته، بعد أن كانوا يسخرون منه. حصلت الموقعة الثانية، عند وصول الأعداء إلى القرية، فأجبرته زوجتُه على أن يكون عند حسن ظن القرية، بإركابه على حصانه وربطه إليه. وحين اقترب من العدو، هلع الحصان وركض به وسط كتيبة العدوّ، بينما هو يصرُخ من الرعب، فخاف الخصوم وهربوا، لمّا رأوا "شجاعته"، هو صائد الوحش الذي جالت أصداء "بسالته" الآفاق. ولكن إلى متى كان الأمر سيستمر قبل أن تهوي الإشاعة؟

في فقه الحديث، هناك ما تُسمّى الإسرائيليات، وهي قصصٌ تفسّر ما جاء في التوراة، مما أضافه الأحبار أو المفسّرون إليها، ثم، رُويت أنّها من التراث الإسلامي. ونُسب بعضها حديثا إلى النبي محمد، فكان للإسرائيليات أثرٌ سيّئٌ على التّفسير الديني، لكون بعضها قريبا من الحقيقة، ما يَسّر مأمورية شطحها الخيالي في بعضها الآخر، الذي يُدخل بعض الأحاديث إلى الميتافيزيقا الأسطورية، التي يقف الإسلام على نقيضٍ منها. وكان من الصعب أحياناً إقناع الناس بزيفها، فما تسرّب إلى أذهانهم يكاد يستحيل محوُه منها، فقد لا تقتل الإشاعة، لكنها تغلّف الحقيقة بالشكّ، إلى الأبد، فالحكم القاطع أنه لا دخان بلا نار يجعل كل متهم مذنبا، ولو بنسبة قليلة، ولن يُعتبر بريئاً أبداً، حتى لو ثبتت براءته بالأدلة والبراهين. هذا ما تعوّل عليه إسرائيل أمام ضمير غربي منافق، يحاول محو ذنبه السّابق في حقّ اليهود، بالتّعامي عن حقيقة أن إسرائيل هي التي تمثّل بأجساد الأطفال، بدكّ بيوتهم فوقهم بوحشية.

إنّها الشّجرة التي تُحاول إخفاء الغابة، لكنّها تفشل أمام الناظر الذي يرغب في رؤية الغابة، بدل أن يحضن الشّجرة بعينين مغمضتين. غابة الحقيقة التي تشتعل فيها حروب الكرامة.

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج