إسرائيل وتجربة الحزام الأمني الفاشلة

إسرائيل وتجربة الحزام الأمني الفاشلة

21 مايو 2024
+ الخط -

أظهر كلام وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، أخيرا، والذي حذّر فيه من خطورة إقامةِ حكمٍ عسكري إسرائيلي مُؤقّتٍ في قطاع غزّة، عُمق الخلافات بين المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية ورئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، بشأن الوضع في "اليوم التالي" للحرب في القطاع. فرئيس الحكومة، الذي رفض أيَّ كلامٍ عن صورة الوضع في اليوم التالي للحرب، وأعلن غير مرّة رفضَه المُطلقِ أيّ دور للسلطة الفلسطينية هناك، يبدو أنّه يُفكّر ويدرس جدّياً خطّةً اقترحها سكرتيره العسكري، تقضي بإقامة حكم عسكري إسرائيلي مُؤقّتٍ في القطاع، إلى حين التأكّد من القضاء كلّياً على حركة حماس، وإعداد قوى محلّية غزّيّة غير تابعة للحركة تتولى المسؤولية المدنيّة عن إدارة حياة سكّان القطاع. 
أثارت فكرة تحميل الجيش الإسرائيلي مُهمّات إدارة شؤون القطاع، عسكرياً ومدنياً، عاصفة من الاحتجاج الشديد في أوساط المؤسّسة العسكرية، التي سرعان ما نشرت وثيقةً كشفت فيها الكلفةَ الباهظةَ لحكمٍ عسكري في غزّة، اقتصادياً وعسكرياً، بينما رأى مُعلّقون عسكريون في الفكرة محاولةً من نتنياهو للتهرّب من اتخاذ قرار بشأن إنهاء الحرب، والمُضيّ في صفقة المخطوفين حفاظاً على بقائِه في السلطة. بينما صفّق اليمين المُتشدّد للفكرة، وأيّدها بحماسةٍ، لأنّه رأى فيها فرصةً لتحقيق تطلعاته في العودة إلى إقامة مستوطنات يهودية في غزّة.

دفعت إسرائيل ثمناً باهظاً لوجودها في جنوبي لبنان، الذي استمر 18 عاماً، وتسبّب في مقتل أكثر من 1400 جنديّ، وإصابة 3750 آخرين

وتذكّر فكرة إقامة حكم عسكري مُؤقّتٍ في القطاع بتجربة أخرى، شبيهةٍ، إلى حدّ ما، هي المنطقة الأمنية التي أقامها الجيش عند اتخاذ قرار انسحابه من لبنان بعد غزوه له في 1982. وهذا الحزام الأمني، الذي كان يمتدّ من الحدود اللبنانية مع الأراضي الفلسطينية المُحتلّة حتّى نهر الليطاني (قرابة 30 كلم من الحدود)، وضعت إسرائيل أُسسَه بعد عملية الليطاني (1978)، واستمرّت ثلاثة أشهر توغّل خلالها الجيش الإسرائيلي في الأراضي اللبنانية، ودمّر البنى التحتية للتنظيمات المُسلّحة الفلسطينية هناك، لينسحب بعد ثلاثة أشهر، ويسلّم المسؤولية العسكرية عن هذه المنطقة إلى جيش لبنان الجنوبي بقيادة أنطوان لحد، وهو مليشيا لبنانية استخدمتها إسرائيل لمحاربة الوجود الفلسطيني المُسلّح في تلك المنطقة. بعد الاجتياح الإسرائيلي لبنان (1982)، ومن ثمّ قرار الانسحاب (1985) من الجنوب، أبقت إسرائيل وجوداً عسكرياً في هذه المنطقة الأمنية التي ظلّت تحتَ سيطرةٍ مشتركةٍ بين الجيش الإسرائيلي وجيش لبنان الجنوبي. ولقد دفعت إسرائيل ثمناً باهظاً لهذا الوجود، الذي استمر 18 عاماً، وتسبّب في مقتل أكثر من 1400 جنديّ، وإصابة 3750 آخرين. حينها، تحوّلت مهمّة الوجود العسكري الإسرائيلي من حماية المستوطنات الإسرائيلية في الشمال إلى حماية جنوده من هجمات حزب الله وضرباته. وأدّى ذلك كلّه إلى ظهور حركات احتجاج إسرائيلية ضدّ الوجود العسكري في المنطقة الأمنية، تدعو إلى الانسحاب في أسرع وقت من الجنوب اللبناني، ومن أكثرها أهمّية حركة الأمهات الأربع، التي أنشأتها أمهاتٌ ثكلى فقدن أبناءهن في لبنان، وتوسعت حركة الاحتجاج بصورة واسعة النطاق، الأمر الذي دفع إيهود باراك، الذي كان مُرشّحاً، حينها، لرئاسة الحكومة في الانتخابات، إلى تبنّي الفكرة وتنفيذها بعد فوزه في هذه الانتخابات، واتخاذه القرار بالانسحاب، من طرف واحد، من لبنان، في مايو/ أيار 2000.

الحزام الأمني في لبنان كان السبب الأول والمباشر لنشوء حزب الله، أهمّ وأشرس قوّة عسكرية قاتلت، وتقاتل، الجيش الإسرائيلي منذ أواسط الثمانينيات

النقاش الإسرائيلي، اليوم، عن إقامة حكم عسكري، وتحويل القطاع كلّه إلى منطقة أمنية تكون خاضعة عسكرياً، وربّما مدنياً، لسيطرة الجيش الإسرائيلي، يبدو استعادةً مُتأخّرةً للتجربة اللبنانية الفاشلة، فالحزام الأمني في لبنان كان السبب الأول والمباشر لنشوء حزب الله، أهمّ وأشرس قوّة عسكرية قاتلت، وتقاتل، الجيش الإسرائيلي منذ أواسط الثمانينيات. ويمكننا أن نتخيّل كيف سيكون حال الحكم العسكري في منطقة قتال توجد فيها تنظيمات فلسطينية مسلّحة، تشنّ هجمات ضدّ الجنود الإسرائيليين من فوق الأرض ومن تحتها، وتضطرّ القوات الإسرائيلية، مرّة تلو الأخرى، إلى الدخول لتطهير مناطق من المُسلّحين، كانت سبق أن أعلنت سيطرتها عليها، وانسحبت منها، لتعود وتكتشف عودة المُسلّحين إليها. ولا يمرّ يوم، تقريباً، منذ أسابيع، لا تعلن فيه إسرائيل مقتل جنودٍ لها في معارك في جنوبي القطاع وشرقه. يجري هذا بينما لا يتمركز الجيش في مواقع ثابته ومعروفة، ويتحرّك باستمرار كي لا يكون عرضةً للهجمات، فكيف يمكن أن يكون الوضع عندما يتحوّل الوجود العسكري الإسرائيلي في القطاع إلى وجودٍ دائمٍ، ويصبح، بالتالي، أكثر انكشافاً لهجمات "حماس"، وغيرها من التنظيمات الفلسطينية المقاتلة في القطاع؟

تفكير نتنياهو في إقامة حكم عسكري في غزّة هو أكبر تعبير عن الإفلاس العسكري والاستراتيجي الذي وصل إليه

عندما أنشأت إسرائيل حزامها الأمني في لبنان، اعتمدت على مليشيات غلبت عليها طائفةٌ معينة، في غمرة حرب أهلية كان لبنان يعيشها، ولقد استغلت إسرائيل تفكّك الدولة اللبنانية وضعفها، والانقسام الطائفي، لتغذية الحقد على الفلسطينيين، ولاحقاً، على حزب الله. ورغم ذلك كلّه، يمكن أن يكون الدرس القاسي لتجربة الحزام عبرة قاسية لأيّ طرف محلّي فلسطيني يُفكّر في التعاون مع الإسرائيليين ضدّ مصلحة شعبه. والدليل ما جرى لمليشيا جيش لبنان الجنوبي بعد الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان (2000)، والتخلي عن هذا الجيش، الذي وجد نفسه بين ليلة وضحاها وحيداً من دون سندٍ، ووجهاً لوجه مع مقاتلي حزب الله الذين سرعان ما استولوا على كلّ المواقع التي كان يسيطر عليها الإسرائيليون، واضطرّ أفراد جيش لبنان الجنوبي، وأفراد عائلاتهم، إلى الفرار من لبنان إلى إسرائيل، خوفاً من تعرّضهم للانتقام. 
تفكير بنيامين نتنياهو في إقامة حكم عسكري في غزّة هو أكبر تعبير عن الإفلاس العسكري والاستراتيجي الذي وصل إليه، والذي بدأت تداعياته بالظهور على الداخل الإسرائيلي، بدءاً من المُعارَضَة الشديدة للمؤسّسة العسكرية لمثل خطّةٍ كهذه، مروراً بتحذيرات غالانت، والإنذار الذي وجّهه وزير مجلس الحرب المُصغّر بني غانتس إلى نتنياهو لحسم قراره من موضوع المخطوفين (حتّى 8 يونيو/ حزيران)، وتهديد وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير بأنّ على نتنياهو أن يختار بين اليمين المُتطرّف وبين غانتس، وصولاً إلى الشارع الإسرائيلي، عندما يعلم أنّ أبناءه وبناته سيغرقون في رمال غزّة إلى ما لا نهاية.

رندة حيدر
رندة حيدر
رندة حيدر
كاتبة وصحافية لبنانية متخصصة في الشؤون الإسرائيلية
رندة حيدر